أنه لا مهدي إلا من هذاه الله ولا ضال إلا من أضله الله
واعلم أنه تعالى لما وصف القرآن بأنهم عرضوا عنه ولا يسمعونه بيّن أنهم صرحوا بهذه النفرة والمباعدة وذكروا ثلاثة أشياء أحدها أنهم قالوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وأكنة جمع كنان كأغطية جمع غطاء والكنان هو الذي يجعل فيه السهام وثانيها قولهم وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أي صمم وثقل من استماع قولك وثالثها قولهم وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ والحجاب هو الذي يمنع من الرؤية والفائدة في كلمة مِنْ في قوله وَمِن بَيْنِنَا أنه لو قيل وبيننا وبينك حجاب لكان المعنى أن حجاباً حصل وسط الجهتين وأما بزيادة لفظ مِنْ كأن المعنى أن الحجاب ابتدأ منا وابتدأ منك فالمسافة الحاصلة بيننا وبينك مستوعبة بالحجاب وما بقي جزء منها فارغاً عن هذا الحجاب فكانت هذه اللفظة دالة على قوة هذا الحجاب هكذا ذكره صاحب ( الكشاف ) وهو في غاية الحسن
واعلم أنه إنما وقع الاقتصار على هذه الأعضاء الثلاثة وذلك لأن القلب محل المعرفة وسلطان البدن والسمع والبصر هما الآلتان المعينتان لتحصيل المعارف فلما بيّن أن هذه الثلاثة محجوبة كان ذلك أقصى ما يمكن في هذا الباب
واعلم أنه إذا تأكدت النفرة عن الشيء صارت تلك النفرة في القلب فإذا سمع منه كلاماً لم يفهم معناه كما ينبغي وإذا رآه لم تصر تلك الرؤية سبباً للوقوف على دقائق أحوالك ذلك المرئي وذلك المدرك والشاعر هو النفس وشدة نفرة النفس عن الشيء تمنعها من التدبر والوقوف على دقائق ذلك الشيء فإذا كان الأمر كذلك كان قولهم قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ استعارات كاملة في إفادة المعنى المراد فإن قيل إنه تعالى حكى هذا المعنى عن الكفار في معرض الذم وذكر أيضاً ما يقرب منه في معرض الذم فقال وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ ( البقرة ٨٨ )
ثم إنه تعالى ذكر هذه الأشياء الثلاثة بعينها في معرض التقرير والإثبات في سورة الأنعام فقال وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْراً ( الأنعام ٢٥ ) فكيف الجمع بينهما قلنا إنه لم يقل ههنا أنهم كذبوا في ذلك إنما الذي ذمهم عليه أنهم قالوا إنا إذا كنا كذلك لم يجز تكليفنا وتوجيه الأمر والنهي علينا وهذا الثاني باطل أما الأول فلأنه ليس في الآية ما يدل على أنهم كذبوا فيه
واعلم أنهم لما وصفوا أنفسهم بهذه الصفات الثلاثة قالوا فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ والمراد فاعمل على دينك إننا عاملون على ديننا ويجوز أن يكون المراد فاعمل في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك والحاصل عندنا أن القوم ما كذبوا في قولهم قُلُوبُنَا فِى ءامِنَة ً مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ بل إنما أتوا بالكفر والكلام الباطل في قولهم فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ
ولما حكى الله عنهم هذه الشبهة أمر محمداً ( ﷺ ) أن يجيب عن هذه الشبهة بقوله قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَى َّ وبيان هذا الجواب كأنه يقول إني لا أقدر أن أحملكم على الإيمان جبراً وقهراً فإني بشر مثلكم ولا امتياز بيني وبينكم إلا بمجرد أن الله عزّ وجلّ أوحى إليّ وما أوحى إليكم فأنا أبلغ هذا النحي إليكم ثم بعد ذلك إن شرفكم الله بالتوحيد والتوفيق قبلتموه وإن خذلكم بالحرمان رددتموه وذلك لا يتعلق بنبوتي ورسالتي ثم بيّن أن خلاصة ذلك الوحي ترجع إلى أمرين العلم والعمل أما العلم فالرأس


الصفحة التالية
Icon