وأما قوله تعالى ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ أي ذلك الموجود الذي علمت من صفته وقدرته أنه خلق الأرض في يومين هو رب العالمين وخالقهم ومبدعهم فكيف أثبتم له أنداداً من الخشب والحجر ثم إنه تعالى لما أخبر عن كونه خالقاً للأرض في يومين أخبر أنه أتى بثلاثة أنواع من الصنع العجيب والفعل البديع بعد ذلك فالأول قوله وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِى َ مِن فَوْقِهَا والمراد منها الجبال وقد تقدم تفسير كونها رَوَاسِى َ في سورة النحل فإن قيل ما الفائدة في قوله مّن فَوْقِهَا ولم لم يقتصر على قوله وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِى َ كقوله تعالى وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِى َ شَامِخَاتٍ ( المرسلات ٢٧ ) وَجَعَلْنَا فِى الاْرْضِ رَوَاسِى َ ( الرعد ٣ ) قلنا لأنه تعالى لو جعل فيها رواسي من تحتها لأوهم ذلك أن تلك الأساطين التحتانية هي التي أمسكت هذه الأرض الثقيلة عن النزول ولكنه تعالى قال خلقت هذه الجبال الثقال فوق الأرض ليرى الإنسان بعينه أن الأرض والجبال أثقال على أثقال وكلها مفتقرة إلى ممسك وحافظ وما ذاك الحافظ المدبر إلا الله سبحانه وتعالى والنوع الثاني مما أخبر الله تعالى في هذه الآية قوله وَبَارَكَ فِيهَا والبركة كثرة الخير والخيرات الحاصلة من الأرض أكثر مما يحيط به الشرح والبيان وقد ذكرناها بالاستقصاء في سورة البقرة قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد شق الأنهار وخلق الجبال وخلق الأشجار والثمار وخلق أصناف الحيوانات وكل ما يحتاج إليه من الخيرات والنوع الثالث قوله تعالى وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْواتَهَا وفيه أقوال الأول أن المعنى وقد فيها أقوات أهلها ومعايشهم وما يصلحهم قال محمد بن كعب قدر أقوات الأبدان قبل أن يخلق الأبدان والقول الثاني قال مجاهد وقدر فيها أقواتها من المطر وعلى هذا القول فالأقوات للأرض لا للسكان والمعنى أن الله تعالى قدر لكل أرض حظها من المطر والقول الثالث أن المراد من إضافة الأقوات إلى الأرض كونها متولدة من تلك الأرض وحادثة فيها لأن النحويين قالوا يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب فالشيء قد يضاف إلى فاعله تارة وإلى محله أخرى فقوله وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْواتَهَا أي قدر الأقوات التي يختص حدوثها بها وذلك لأنه تعالى جعل كل بلدة معدناً لنوع آخر من الأشياء المطلوبة حتى أن أهل هذه البلدة يحتاجون إلى الأشياء المتولدة في تلك البلدة وبالعكس فصار هذا المعنى سبباً لرغبة الناس في التجارات من اكتساب الأموال ورأيت من كان يقول صنعة الزراعة والحراثة أكثر الحرف والصنائع بركة لأن الله تعالى وضع الأرزاق والأقوات في الأرض قال وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْواتَهَا وإذا كانت الأقوات موضوعة في الأرض كان طلبها من الأرض متعيناً ولما ذكر الله سبحانه هذه الأنواع الثلاثة من التدبير قال بعده فِى أَرْبَعَة ِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ وههنا سؤالات
السؤال الأول أنه تعالى ذكر أنه خلق الأرض في يومين وذكر أنه أصلح هذه الأنواع الثلاثة في أربعة أيام أُخر وذكر أنه خلق السموات في يومين فيكون المجموع ثمانية أيام لكنه ذكر في سائر الآيات أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام فلزم التناقض واعلم أن العلماء أجابوا عنه بأن قالوا المراد من قوله وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْواتَهَا فِى أَرْبَعَة ِ أَيَّامٍ مع اليومين الأولين وهذا كقول القائل سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام وسرت إلى الكوفة في خمسة عشر يوماً يريد كلا المسافتين ويقول الرجل للرجل أعطيتك ألفاً في شهر وألوفاً في شهرين فيدخل الألف في الألوف والشهر في الشهرين
السؤال الثاني أنه ملا ذكر أنه خلق الأرض في يومين فلو ذكر أنه خلق هذه الأنواع الثلاثة الباقية في يومين آخرين كان أبعد عن الشبهة وأبعد عن الغلط فلم ترك هذا التصريح وذكر ذلك الكلام المجمل


الصفحة التالية
Icon