لكل أحد كالنداء فإن الشاة تصيح وتطلب ولدها وكذلك غيرها من الحيوانات والسخلة كذلك فكأن النداء حصل في المعنى لغير الآدمي فقال الله تعالى في حقهم أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ يعني النداء الصادر منهم لما لم يكن مقروناً بحسن الأدب كانوا فيه خارجين عن درجة من يعقل وكان نداؤهم كصياح صدر من بعض الحيوان وقوله تعالى أَكْثَرُهُمْ فيه وجهان أحدهما أن العرب تذكر الأكثر وتريد الكل وإنما تأتي بالأكثر احترازاً عن الكذب واحتياطاً في الكلام لأن الكذب مما يحبط به عمل الإنسان في بعض الأشياء فيقول الأكثر وفي اعتقاده الكل ثم إن الله تعالى مع إحاطة علمه بالأمور أتى بما يناسب كلامهم وفيه إشارة إلى لطيفة وهي أن الله تعالى يقول أنا مع إحاطة علمي بكل شيء جريت على عادتكم استحساناً لتلك العادة وهي الاحتراز عن الكذب فلا تتركوها واجعلوا اختياري ذلك في كلامي دليلاً قاطعاً على رضائي بذلك وثانيهما أن يكون المراد أنهم في أكثر أحوالهم لا يعقلون وتحقيق هذا هو أن الإنسان إذا اعتبر مع وصف ثم اعتبر مع وصف آخر يكون المجموع الأول غير المجموع الثاني مثاله الإنسان يكون جاهلاً وفقيراً فيصير عالماً وغنياً فيقال في العرف زيد ليس هو الذي رأيته من قبل بل الآن على أحسن حال فيجعله كأنه ليس ذلك إشارة إلى ما ذكرنا إذا علم هذا فهم في بعض الأحوال إذا اعتبرتهم مع تلك الحالة مغايرون لأنفسهم إذا اعتبرتهم مع غيرها فقال تعالى أَكْثَرُهُمْ إشارة إلى ما ذكرناه وفيه وجه ثالث وهو أن يقال لعل منهم من رجع عن تلك الأهواء ومنهم من استمر على تلك العادة الرديئة فقال أكثرهم إخراجاً لمن ندم منهم عنهم
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
ثم قال تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ إشارة إلى حسن الأدب الذي على خلاف ما أتوا به من سوء الأدب فإنهم لو صبروا لما احتاجوا إلى النداء وإذا كنت تخرج إليهم فلا يصح إتيانهم في وقت اختلائك بنفسك أو بأهلك أو بربك فإن للنفس حقاً وللأهل حقاً وقوله تعالى لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون المراد أن ذلك هو الحسن والخير كقوله تعالى خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً ( الفرقان ٢٤ ) وثانيهما أن يكون المراد هو أن بالنداء وعدم الصبر يستفيدون تنجيز الشغل ودفع الحاجة في الحال وهو مطلوب ولكن المحافظة على النبي ( ﷺ ) وتعظيمه خير من ذلك لأنها تدفع الحاجة الأصلية التي في الآخرة وحاجات الدنيا فضلية والمرفوع الذي يقتضيه كلمة كان إما الصبر وتقديره لو أنهم صبروا لكان الصبر خيراً أو الخروج من غير نداء وتقديره لو صبروا حتى تخرج إليهم لكان خروجك من غير نداء خيراً لهم وذلك مناسب للحكاية لأنهم طلبوا خروجه عليه الصلاة والسلام ليأخذوا ذراريهم فخرج وأعتق نصفهم وأخذوا نصفهم ولو صبروا لكان يعتق كلهم والأول أصح
ثم قال تعالى وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ تحقيقاً لأمرين أحدهما لسوء صنيعهم في التعجل فإن الإنسان إذا أتى بقبيح ولا يعاقبه الملك أو السيد يقال ما أحلم سيده لا لبيان حلمه بل لبيان عظيم جناية العبد وثانيهما لحسن الصبر يعني بسبب إتيانهم بما هو خير يغفر الله لهم سيئاتهم ويجعل هذه الحسنة كفارة


الصفحة التالية
Icon