وقوله تعالى مِنْهُمْ يصلح أن يكون مذكوراً كالمقرر لتعجبهم ويصلح أن يكون مذكوراً لإبطال تعجبهم أما التقرير فلأنهم كانوا يقولون أَبَشَراً مّنَّا واحِداً نَّتَّبِعُهُ ( القمر ٢٤ ) و قَالُواْ مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا ( ي س ١٥ ) إشارة إلى أنه كيف يجوز اختصاصكم بهذه المنزلة الرفيعة مع اشتراكنا في الحقيقة واللوازم وأما الإبطال فلأنه إذا كان واحداً منهم ويرى بين أظهرهم وظهر عليه ما عجز عنه كلهم ومن بعدهم كان يجب عليهم أن يقولوا هذا ليس من عنده ولا من عند أحد من جنسنا فهو من عند الله بخلاف ما لو جاءهم واحد من خلاف جنسهم وأتى بما يعجزون عنه فإنهم كانوا يقولون نحن لا نقدر لأن لكل نوع خاصية فإن خاصية النعامة بلع النار والطيور الطير في الهواء وابن آدم لا يقدر عليه فإن قيل الإبطال جائز لأن قولهم كان باطلاً ولكن تقرير الباطل كيف يجوز نقول المبين لبطلان الكلام يجب أن يورده على أبلغ ما يمكن ويذكر فيه كل ما يتوهم أنه دليل عليه ثم يبطله فلذلك قال عجبتم بسبب أنه منكم وهو في الحقيقة سبب لهذا التعجب فإن قيل النبي ( ﷺ ) كان بشيراً ونذيراً والله تعالى في جميع المواضع قدم كونه بشيراً على كونه نذيراً فلم لم يذكر عجبوا أن جاءهم بشير منهم نقول هو لما لم يتعين للبشارة موضعاً كان في حقهم منذراً لا غير
ثم قال تعالى فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ
قال الزمخشري هذا تعجب آخر من أمر آخر وهو الحشر الذي أشار إليه بقوله أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ( ق ٣ ) فعجبوا من كونه منذراً من وقوع الحشر ويدل عليه النظر في أول سورة ص حيث قال فيه وَعَجِبُواْ أَن جَاءهُم مٌّ نذِرٌ ( ص ٤ ) وقال أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء عُجَابٌ ( ص ٥ ) ذكر تعجبهم من أمرين والظاهر أن قولهم هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ إشارة إلى مجيء المنذر لا إلى الحشر ويدل عليه وجوه الأول هو أن هناك ذكر إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء عُجَابٌ بعد الاستفهام الإنكاري فقال أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء عُجَابٌ وقال ههنا هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ ولم يكن ما يقع الإشارة إليه إلا مجيء المنذر ثم قالوا أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ الثاني ههنا وجد بعد الاستبعاد بالاستفهام أمر يؤدي معنى التعجب وهو قولهم ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ فإنه استبعاد وهو كالتعجب فلو كان التعجب أيضاً عائداً إليه لكان كالتكرار فإن قيل التكرار الصريح يلزم من جعل قولك هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ عائداً إلى مجيء المنذر فإن تعجبهم منه علم من قوله عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ فقوله هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ يكون تكراراً نقول ذلك ليس بتكرار بل هو تقرير وذلك لأنه لما قال بَلْ عَجِبُواْ بصيغة الفعل وجاز أن يتعجب الإنسان مما لا يكون عجيباً كما قال تعالى أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ( هود ٧٣ ) ويقال في العرف لا وجه لتعجبك مما ليس بعجب فكأنهم لما عجبوا قيل لهم لا معنى لفعلكم وعجبكم فقالوا هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ فكيف لا نعجب منه ويدل عليه أنه تعالى قال ههنا فَقَالَ الْكَافِرُونَ بحرف الفاء وقال في ص وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَاذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ( ص ٤ ) لأن قولهم سَاحِرٌ كَذَّابٌ كان تعنتاً غير مرتب على ما تقدم و هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ أمر مرتب على ما تقدم أي عجبوا وأنكروا عليه ذلك فقالوا هَاذَا شَى ْء عَجِيبٌ فكيف لا نعجب منه ويدل


الصفحة التالية
Icon