أنشأنا جنات يقطف ثمارها وأصولها باقية وزرعاً يحصد كل سنة ويزرع في كل عام أو عامين ويحتمل أن يقال التقدير وننبت الحب الحصيد والأول هو المختار وقوله تعالى وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ إشارة إلى المختلط من جنسين لأن الجنات تقطف ثمارها وتثمر من غير زراعة كل سنة لكن النخل يؤبر ولولا التأبير لم يثمر فهو جنس مختلط من الزرع والشجر فكأنه تعالى خلق ما يقطف كل سنة ويزرع وخلق ما لا يزرع كل سنة ويقطف مع بقاء أصلها وخلق المركب من جنسين في الأثمار لأن بعض الثمار فاكهة ولا قوت فيه وأكثر الزرع قوت والثمر فاكهة وقوت والباسقات الطوال من النخيل
وقوله تعالى بَاسِقَاتٍ يؤكد كمال القدرة والاختيار وذلك من حيث إن الزرع إن قيل فيه إنه يمكن أن يقطف من ثمرته لضعفه وضعف حجمه فكذلك يحتاج إلى إعادته كل سنة والجنات لكبرها وقوتها تبقى وتثمر سنة بعد سنة فيقال أليس النخل الباسقات أكثر وأقوى من الكرم الضعيف والنخل محتاجة كل سنة إلى عمل عامل والكرم غير محتاج فالله تعالى هو الذي قدر ذلك لذلك لا للكبر والصغر والطول والقصر
قوله تعالى لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ أي منضود بعضها فوق بعض في أكمامها كما في سنبله الزرع وهو عجيب فإن الأشجار الطوال أثمارها بارزها متميز بعضها من بعض لكل واحد منها أصل يخرج منه كالجوز واللوز وغيرهما والطلع كالسنبلة الواحدة يكون على أصل واحد
رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً كَذَالِكَ الْخُرُوجُ
ثم قال تعالى رّزْقاً لّلْعِبَادِ وفيه وجهان أحدهما نصب على المصدر لأن الإنبات رزق فكأنه تعالى قال أنبتناها إنباتاً للعباد والثاني نصب على كونه مفعولاً له كأنه قال أنبتناها لرزق العباد وههنا مسائل
المسألة الأولى قال في خلق السماء والأرض تَبْصِرَة ً وَذِكْرَى ( ق ٨ ) وفي الثمار قال رِزْقاً والثمار أيضاً فيها تبصرة وفي السماء والأرض أيضاً منفعة غير التبصرة والتذكرة فما الحكمة في اختيار الأمرين نقول فيه وجوه أحدها أن نقول الاستدلال وقع لوجود أمرين أحدهما الإعادة والثاني البقاء بعد الإعادة فإن النبي ( ﷺ ) كان يخبرهم بحشر وجمع يكون بعد الثواب الدائم والعقاب الدائم وأنكروا ذلك فأما الأول فالله القادر على خلق السماوات والأرض قادر على خلق الخلق بعد الفناء وأما الثاني فلأن البقاء في الدنيا بالرزق والقادر على إخراج الأرزاق من النجم والشجر قادر على أن يرزق العبد في الجنة ويبقى فكأن الأول تبصرة وتذكرة بالخلق والثاني تذكرة بالبقاء بالرزق ويدل على هذا الفصل بينهما بقوله تَبْصِرَة ً وَذِكْرَى حيث ذكر ذلك بعد الآيتين ثم بدأ بذكر الماء وإنزاله وإنباته النبات ثانيها أن منفعة الثمار الظاهرة هي الرزق فذكرها ومنفعة السماء الظاهرة ليست أمراً عائداً إلى انتفاع العباد لبعدها عن ذهنهم حتى أنهم لو توهموا عدم الزرع والثمر لظنوا أن يهلكوا ولو توهموا عدم السماء فوقهم لقالوا لا يضرنا ذلك مع أن الأمر بالعكس أولى لأن السماء سبب الأرزاق بتقدير الله وفيها غير ذلك من المنافع والثمار وإن لم تكن ( ما ) كان العيش كما أنزل الله على قوم المن والسلوى وعلى قوم المائدة من السماء فذكر الأظهر للناس في هذا الموضع ثالثها قوله رِزْقاً إشارة إلى كونه منعماً لكون تكذيبهم في غاية القبح فإنه يكون إشارة ( للتكذيب ) بالمنعم وهو أقبح ما يكون
المسألة الثانية قال تَبْصِرَة ً وَذِكْرَى لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ( ق ٨ ) فقيد العبد بكونه منيباً وجعل خلقها تبصرة لعباده المخلصين وقال رّزْقاً لّلْعِبَادِ مطلقاً لأن الرزق حصل لكل أحد غير أن المنيب يأكل ذاكراً شاكراً للإنعام وغيره يأكل كما تأكل الأنعام فلم يخصص الرزق بقيد


الصفحة التالية
Icon