يبدعه فإذا قال للناس هاتوا جسماً تريدون حتى أجعل لكم منه كذا يزول ذلك الوهم لكن أظهر الأشياء عند الإنسان الأرض التي هي مهده وفرشه والسماء التي هي سقفه وعرشه وكانت العرب على مذهب الفلاسفة في أصل المذهب ولا يلتفت إلى قول الفلسفي نحن ننزه غاية التنزيه حتى لا نجوز رؤيته واتصافه بوصف زائد على ذاته ليكون واحداً في الحقيقة فكيف يكون مذهبنا مذهب من يشرك بالله صنماً منحوتاً نقول أنتم لما نسبتم الحوادث إلى الكواكب وشرعتم في دعوة الكواكب أخذ الجهال عنكم ذلك واتخذوه مذهباً وإذا ثبت أن العرب في الجاهلية كانت في الأصل على مذهب الفلاسفة وهم يقولون بالطبائع فيقولون الأرض طبعها التكوين والسماء طبعها يمنع الانفصل والانفكاك فقال الله تعالى رداً عليهم في مواضع إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الاْرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السَّمَاء ( سبأ ٩ ) إبطالاً للطبائع وإيثاراً للاختيار في الوقائع فقال ههنا إن أتينا بشيء غريب في غاية الغرابة في أظهر الأشياء وهو السماء التي يرونها أبداً ويعلمون أن أحداً لا يصل إليها ليعدد بالأدوية وغيرها ما يجب سقوطها لأنكروا ذلك فكيف فيما دون ذلك من الأمور والذي يؤيد ما ذكرناه وأنهم كانوا على مذهب الفلاسفة في أمر السماء أنهم قالوا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا ( الإسراء ٩٢ ) أي ذلك في زعمك ممكن فأما عندنا فلا والكسفة القطعة يقال كسفة من ثوب أي قطعة وفيه مباحث
البحث الأول استعمل في السماء لفظة الكسف واللغويون ذكروا استعمالها في الثوب لأن الله تعالى شبه السماء بالثوب المنشور ولهذا ذكره فيما مضى فقال وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ ( الزمر ٦٧ ) وقال تعالى يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاء ( الأنبياء ١٠٤ )
البحث الثاني استعمل الكسف في السماء والخسف في الأرض فقال تعالى نَخْسِفْ بِهِمُ الاْرْضَ ( سبأ ٩ ) وهو يدل على قول من قال يقال في القمر خسوف وفي الشمس كسوف ووجهه أن مخرج الخاء دون مخرج الكاف ومخرج الكاف فوقه متصل به فاستعمل وصف الأسفل للأسفل والأعلى للأعلى فقالوا في الشمس والسماء الكسوف والكسف وفي القمر والأرض الخسوف والخسف وهذا من قبيل قولهم في الماتح والمايح إن ما نقطه فوق لمن فوق البئر وما نقطه من أسفل عند من يجوز نقطه من أسفل لمن تحت في أسفل البئر
البحث الثالث قال في السحاب ونجعله كسفاً مع أنه تحت القمر وقال في القمر وَانشَقَّ الْقَمَرُ ( القيامة ٨ ) وذلك لأن القمر عند الخسوف له نظير فوقه وهو الشمس عند الكسوف والسحاب اعتبر فيه نسبته إلى أهل الأرض حيث ينظرون إليه فلم يقل في القمر خسف بالنسبة إلى السحاب وإنما قيل ذلك بالنسبة إلى الشمس وفي السحاب قيل بالنسبة إلى الأرض
المسألة الثانية ساقطاً يحتمل وجهين أحدهما أن يكون مفعولاً ثانياً يقال رأيت زيداً عالماً وثانيهما أن يكون حالاً كما يقال ضربته قائماً والثاني أولاً لأن الرؤية عند التعدي إلى مفعولين في أكثر الأمر تكون بمعنى العلم تقول أرى هذا المذهب صحيحاً وهذا الوجه ظاهراً وعند التعدي إلى واحد تكون بمعنى رأي العين في الأكثر تقول رأيت زيداً وقال تعالى لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ( غافر ٨٤ ) وقال فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً ( مريم ٢٦ ) والمراد في الآية رؤية العين


الصفحة التالية
Icon