( النجم ١٤ ) كل ذلك يدل على خلاف ما ذكرته نقول سنبين موافقته لما ذكرنا إن شاء الله في مواضعه عند ذكر تفسيره فإن قيل الأحاديث تدل على خلاف ما ذكرته حيث ورد في الأخبار أن جبريل ( ﷺ ) أرى النبي ( ﷺ ) نفسه على صورته فسد المشرق فنقول نحن ما قلنا إنه لم يكن وليس في الحديث أن الله تعالى أراد بهذه الآية تلك الحكاية حتى يلزم مخالفة الحديث وإنما نقول أن جبريل أرى النبي ( ﷺ ) نفسه مرتين وبسط جناحيه وقد ستر الجانب الشرقي وسده لكن الآية لم ترد لبيان ذلك
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى
ثم قال تعالى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى وفيه وجوه مشهورة أحدها أن جبريل دنا من النبي ( ﷺ ) أي بعد ما مد جناحه وهو بالأفق عاد إلى الصورة التي كان يعتاد النزول عليها وقرب من النبي ( ﷺ ) وعلى هذا ففي تدلى ثلاثة وجوه أحدها فيه تقديم وتأخير تقديره ثم تدلى من الأفق الأعلى فدنا من النبي ( ﷺ ) الثاني الدنو والتدلي بمعنى واحد كأنه قال دنا فقرب الثالث دنا أي قصد القرب من محمد ( ﷺ ) وتحرك عن المكان الذي كان فيه فتدلى فنزل إلى النبي ( ﷺ ) الثاني على ما ذكرنا من الوجه الأخير في قوله فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالاْفُقِ الاْعْلَى ( النجم ٧ ) أن محمداً ( ﷺ ) دنا من الخلق والأمة ولان لهم وصار كواحد منهم فتدل أي فتدلى إليهم بالقول اللين والدعاء الرفيق فقال إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَى َّ ( فصلت ٦ ) وعلى هذا ففي الكلام كمالان كأنه تعالى قال إلا وحي يوحي جبريل على محمد فاستوى محمد وكمل فدنا من الخلق بعد علوه وتدلى إليهم وبلغ الرسالة الثالث وهو ضعيف سخيف وهو أن المراد منه هو ربه تعالى وهو مذهب القائلين بالجهة والمكان اللّهم إلا أن يريد القرب بالمنزلة وعلى هذا يكون فيه ما في قوله ( ﷺ ) حكاية عن ربه تعالى ( من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً ومن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً ومن مشى إليّ أتيته هرولة ) إشارة إلى المعنى المجازي وههنا لما بيّن أن النبي ( ﷺ ) استوى وعلا في المنزلة العقلية لا في المكان الحسي قال وقرب الله منه تحقيقاً لما في قوله ( من تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً )
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى
ثم قال تعالى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى أي بين جبرائيل ومحمد عليهما السلام مقدار قوسين أو أقل ورد هذا على استعمال العرب وعادتهم فإن الأميرين منهم أو الكبيرين إذا اصطلحا وتعاهدا خرجا بقوسيهما ووتر كل واحد منهما طرف قوسه بطرف قوس صاحبه ومن دونهما من الرعية يكون كفه بكفه فينهيان باعيهما ولذلك تسمى مسايعة وعلى هذا ففيه لطيفة وهي أن قوله قَابَ قَوْسَيْنِ على جعل كونهما كبيرين وقوله أَوْ أَدْنَى لفضل أحدهما على الآخر فإن الأمير إذا بايعه الرعية لا يكون مع المبايع قوس فيصافحه الأمير فكأنه تعالى أخبر أنهما كأميرين كبيرين فكان بينهما مقدار قوسين أو كان جبرائيل عليه السلام سفيراً بين الله تعالى ومحمد ( ﷺ ) فكان كالتبع لمحمد ( ﷺ ) فصار كالمبايع الذي يمد الباع لا القوس هذا على قول من يفضل النبي ( ﷺ ) على جبرائيل عليه السلام وهو مذهب أهل السنة إلا قليلاً منهم إذ كان جبرائيل رسولاً من الله واجب التعظيم والاتباع فصار النبي ( ﷺ ) عنده كالتبع له على قول من يفضل جبريل على النبي ( ﷺ ) وفيه وجه آخر على ما ذكرنا وهو أن يكون القوس عبارة عن بعد من قاس يقوس وعلى هذا فنقول ذلك البعد هو البعد النوعي الذي كان للنبي ( ﷺ ) فإنه على كل حال كان بشراً وجبريل على كل حال كان ملكاً فالنبي ( ﷺ ) وإن زال عن الصفات التي تخالف صفات الملك من الشهوة والغضب والجهل والهوى


الصفحة التالية
Icon