وجوه ثلاثة الأول الرب تعالى والثاني جبريل عليه السلام والثالث الآيات العجيبة الإلاهية فإن قيل كيف تمكن رؤية الله تعالى بحيث لا يقدح فيه ولا يلزم منه كونه جسماً في جهة نقول اعلم أن العاقل إذا تأمل وتفكر في رجل موجود في مكان وقال هذا مرئي الله تعالى يراه الله و ( إذا ) تفكر في أمر لا يوجد أصلاً وقال هذا مرئي الله تعالى يراه الله تعالى يجد بينهما فرقاً وعقله يصحح الكلام الأول ويكذب الكلام الثاني فذلك ليس بمعنى كونه معلوماً لأنه لو قال الموجود معلوم الله والمعدوم معلوم الله لما وجد في كلامه خللاً واستبعاداً فالله راء بمعنى كونه عالماً ثم إن الله يكون رائياً ولا يصير مقابلاً للمرئي ولا يحصل في جهة ولا يكون مقابلاً له وإنما يصعب على الوهم ذلك من حيث إنه لم ير شيئاً إلا في جهة فيقول إن ذلك واجب ومما يصحح هذا أنك ترى في الماء قمراً وفي الحقيقة ما رأيت القمر حالة نظرك إلى الماء إلا في مكانه فوق السماء فرأيت القمر في الماء لأن الشعاع الخارج من البصر اتصل به فرد الماء ذلك الشعاع إلى السماء لكن وهمك لما رأى أكثر ما رآه في المقابلة لم يعهد رؤية شيء يكون خلفه إلا بالتوجه إليه قال إني أرى القمر ولا رؤية إلا إذ كان المرئي في مقابلة الحدقة ولا مقابل للحدقة إلا الماء فحكم إذن بناء على هذا أنه يرى القمر في الماء فالوهم يغلب العقل في العالم لكون الأمور العاجلة أكثرها وهمية حسية وفي الآخرة تزول الأوهام وتنجلي الأفهام فترى الأشياء لوجودها لا لتحيزها واعلم أن من ينكر جواز رؤية الله تعالى يلزمه أن ينكر جواز رؤية جبريل عليه السلام وفيه إنكار الرسالة وهو كفر وفيه ما يكاد أن يكون كفراً وذلك لأن من شك في رؤية الله تعالى يقول لو كان الله تعالى جائز الرؤية لكان واجب الرؤية لأن حواسنا سليمة والله تعالى ليس من وراء حجاب ولا هو في غاية البعد عنا لعدم كونه في جهة ولا مكان فلو جاز أن يرى ولا نراه للزم القدح في المحسوسات المشاهدات إذ يجوز حينئذ أن يكون عندنا جبل ولا نراه فيقال لذلك القائل قد صح أن جبريل عليه السلام كان ينزل على محمد ( ﷺ ) وعنده غيره وهو يراه ولو وجب ما يجوز لرآه كل أحد فإن قيل إن هناك حجاباً نقول وجب أن يرى هناك حجاباً فإن الحجاب لا يحجب إذا كان مرئياً على مذهبهم ثم إن النصوص وردت أن محمداً ( ﷺ ) رأى ربه بفؤاده فجعل بصره في فؤاده أو رآه ببصره فجعل فؤاده في بصره وكيف لا وعلى مذهب أهل السنة الرؤية بالإرادة لا بقدرة العبد فإذا حصل الله تعالى العلم بالشيء من طريق البصر كان رؤية وإن حصله من طريق القلب كان معرفة والله قادر على أن يحصل العلم بخلق مدرك للمعلوم في البصر كما قدر على أن يحصله بخلق مدرك في القلب والمسألة مختلف فيها بين الصحابة في الوقوع واختلاف الوقوع مما ينبىء عن الاتفاق على الجواز والمسألة مذكورة في الأصول فلا نطولها
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى
أي كيف تجادلونه وتوردون شكوككم عليه مع أنه رأى ما رأى عين اليقين ولا شك بعد الرؤية فهو جازم متيقن وأنتم تقولون أصابه الجن ويمكن أن يقال هو مؤكد للمعنى الذي تقدم وذلك لأن من تيقن شيئاً قد يكون بحيث لا يزول عن نفسه تشكيك وأكد بقوله تعالى
وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَة ً أُخْرَى عِندَ سِدْرَة ِ الْمُنتَهَى
وذلك لأنه ( ﷺ ) لما رآه وهو على بسيط الأرض كان يحتمل أن يقال أنه من الجن احتمالاً في غاية البعد لما بينا أنه ( ﷺ ) حصل له العلم الضروري بأنه ملك مرسل واحتمال البعيد لا يقدح في الجزم واليقين ألا ترى أنا إذا نمنا بالليل وانتبهنا بالنهار نجزم


الصفحة التالية
Icon