بدلناكم على هذا الوجه لأنه يفيد أنا جعلنا بدلاً فلا يدل على وقوع الفناه عليهم غاية ما في الباب أن قول القائل جعلت كذا بدلاً لا تتم فائدته إلا إذا قال جعلته بدلاً عن كذا لكنه تعالى لما قال نُّبَدّلَ أَمْثَالَكُمْ فالمثل يدل على المثل فكأنه قال جعلنا أمثالكم بدلاً لكم ومعناه على ما ذكرنا أنه لم نقدر الموت على أن نفني الخلق دفعة بل قدرناه على أن نجعل مثلهم بدلهم مدة طويلة ثم نهلكهم جميعاً ثم ننشئهم وقوله تعالى فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ على الوجه المشهور في التفسير أنه فيما لا تعلمون من الأوصاف والأخلاق والظاهر أن المراد فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ من الأوصاف والزمان فإن أحداً لا يدري أنه متى يموت ومتى ينشأ أو كأنهم قالوا ومتى الساعة والإنشاء فقال لا علم لكم بهما هذا إذا قلنا إن المراد ما ذكر فيه على الوجه المشهور وفيه لطيفة وهي أن قوله فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ تقرير لقوله تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ ( الواقعة ٥٩ ) وكأنه قال كيف يمكن أن تقولوا هذا وأنتم تنشأون في بطون أمهاتكم على أوصاف لا تعلمون وكيف يكون خالق الشيء غير عالم به وهو كقوله تعالى هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الاْرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّة ٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ( النجم ٣٢ ) وعلى ما ذكرنا فيه فائدة وهي التحريض على العمل الصالح لأن التبديل والإنشاء وهو الموت والحشر إذا كان واقعاً في زمان لا يعلمه أحد فينبغي أن لا يتكل الإنسان على طول المدة ولا يغفل عن إعداد العدة وقال تعالى وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَة َ الاْولَى تقريراً لإمكان النشأة الثانية
ثم قال تعالى
أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَءَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَارِعُونَ
ذكر بعد دليل الخلق دليل الرزق فقوله أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ إشارة إلى دليل الخلق وبه الابتداء وقوله أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ إشارة إلى دليل الرزق وبه البقاء وذكر أموراً ثلاثة المأكول والمشروب وما به إصلاح المأكول ورتبه ترتيباً فذكر المأكول أولاً لأنه هو الغذاء ثم المشروب لأن به الاستمراء ثم النار للتي بها الإصلاح وذكر من كل نوع ما هو الأصل فذكر من المأكول الحب فإنه هو الأصل ومن المشروب الماء لأنه هو الأصل وذكر من المصلحات النار لأن بها إصلاح أكثر الأغذية وأعمها ودخل في كل واحد منها ما هو دونه هذا هو الترتيب وأما التفسير فنقول الفرق بين الحرث والزرع هو أن الحرث أوائل الزرع ومقدماته من كراب الأرض وإلقاء البذر وسقي المبذور والزرع هو آخر الحرث من خروج النبات واستغلاظه واستوائه على الساق فقوله أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أي ما تبتدئون منه من الأعمال أأنتم تبلغونها المقصود أم الله ولا يشك أحد في أن إيجاد الحب في السنبلة ليس بفعل الناس وليس بفعلهم إن كان سوى إلقاء البذر والسقي فإن قيل هذا يدل على أن الله هو الزارع فكيف قال تعالى يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ( الفتح ٢٩ ) وقال النبي ( ﷺ ) ( الزرع للزارع ) قلنا قد ثبت من التفسير أن الحرث متصل بالزرع فالحرث أوائل الزرع والزرع أواخر الحرث فيجوز إطلاق أحدهما على الآخر لكن قوله يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ بدلاً عن قوله يعجب الحراث يدل على أن الحارث إذا كان هو المبتدي فربما يتعجب بما يترتب على فعله من خروج النبات والزارع لما كان هو المنتهى ولا يعجبه إلا شيء عظيم فقال يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ الذين تعودوا أخذ الحراث فما ظنك بإعجابه الحراث وقوله ( ﷺ ) ( الزرع للزارع ) فيه فائدة لأنه لو قال للحارث فمن ابتدأ بعمل الزرع وأتى بكراب الأرض وتسويتها يصير حارثاً وذلك قبل إلقاء البذرة لزرع لمن أتى بالأمر المتأخر وهو إلقاء البذر أي من له البذر على مذهب أبي حنيفة


الصفحة التالية
Icon