بالحدث لأن الأكل قضاء الشهوة وهذا كما أن الاغتسال لما وجب بالإنزال لكونه دليل قضاء الشهوة وكذا بالإيلاج لكونه قضاء بالإيلاج فكذلك الإحداث والأكل فنقول ههنا سر مكنون وهو ما بيناه أن الأكل قد يكون لحاجة وضرورة فنقول الأكل لا يعلم كونه للشهوة إلا بعلامة فإذا أحدث علم أنه أكل ولا يعلم كونه للشهوة وأما الإيلاج فلا يكون للحاجة ولا يكون للضرورة فهو شهوة كيفما كان فناط الشارع إيجاب التطهير بدليلين أحدهما قوله ( ﷺ ) ( إنما الماء من الماء ) فإن الإنزال كالإحداث وكما أن الحدث هو الخارج وهو أصل في إيجاب الوضوء كذلك ينبغي أن يكون الإنزال الذي هو الخروج هو الأصل في إيجاب الغسل فإن عنده يتبين قضاء الحاجة والشهوة فإن الإنسان بعد الإنزال لا يشتهي الجماع في الظاهر وثانيهما ما روي عنه ( ﷺ ) الوضوء من أكل ما مسته النار فإن ذلك دليل قضاء الشهوة كما أن خروج الحدث دليله وذلك لأن المضطر لا يصبر إلى أن يستوي الطعام بالنار بل يأكل كيفما كان فأكل الشيء بعد الطبخ دليل على أنه قاض به الشهوة لا دافع به الضرورة ونعود إلى الجواب عن السؤال ونقول إذا تبين هذا فالشافعي رضي الله عنه قضى بأن شهوة الفرج شهوة محضة فلا تجامع العبادة الجنابة فلا ينبغي أن يقرأ الجنب القرآن والمحدث يجوز له أن يقرأ لأن الحدث ليس يكون عن شهوة محضة
المسألة التاسعة قوله إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ هم الملائكة طهرهم الله في أول أمرهم وأبقاهم كذلك طول عمرهم ولو كان المراد نفي الحدث لقال لا يمسه إلا المطهرون أو المطهرون بتشديد الطاء والهاء والقراءة المشهورة الصحيحة الْمُطَهَّرُونَ من التطهير لا من الإطهار وعلى هذا يتأيد ما ذكرنا من وجه آخر وذلك من حيث إن بعضهم كان يقول هو من السماء ينزل به الجن ويلقيه عليه كما كانوا يقولون في حق الكهنة فإنهم كانوا يقولون النبي ( ﷺ ) كاهن فقال لا يمسه الجن وإنما يمسه المطهرون الذين طهروا عن الخبث ولا يكونون محلاً للإفساد والسفك فلا يفسدون ولا يسفكون وغيرهم ليس بمطهر على هذا الوجه فيكون هذا رداً على القائلين بكونه مفترياً وبكونه شاعراً وبكونه مجنوناً بمس الجن وبكونه كاهناً وكل ذلك قولهم والكل رد عليهم بما ذكر الله تعالى ههنا من أوصاف كتاب الله العزيز
المسألة العاشرة قوله تَنزِيلٌ مّن رَّبّ الْعَالَمِينَ مصدر والقرآن الذي في كتاب ليس تنزيلاً إنما هو منزل كما قال تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ ( الشعراء ١٩٣ ) نقول ذكر المصدر وإرادة المفعول كثير كما قلنا في قوله تعالى هَاذَا خَلْقُ اللَّهِ ( لقمان ١١ ) فإن قيل ما فائدة العدول عن الحقيقة إلى المجاز في هذا الموضع فنقول التنزيل والمنزل كلاهما مفعولان ولهما تعلق بالفاعل لكن تعلق الفاعل بالمصدر أكثر وتعلق المفعول عبارة عن الوصف القائم به فنقول هذا في الكلام فإن كلام الله أيضاً وصف قائم بالله عندنا وإنما نقول من حيث الصيغة واللفظ ولك أن تنظر في مثال آخر ليتيسر لك الأمر من غير غلط وخطأ في الاعتقاد فنقول في القدرة والمقدور تعلق القدرة بالفاعل أبلغ من تعلق المقدور فإن القدرة في القادر والمقدور ليس فيه فإذا قال هذا قدرة الله تعالى كان له من العظمة مالا يكون في قوله هذا مقدور الله لأن عظمة الشيء بعظمة الله فإذا جعلت الشيء قائماً بالتعظيم غير مباين عنه كان أعظم وإذا ذكرته بلفظ يقال مثله فيما لا يقوم بالله وهو المفعول به كان دونه فقال تَنزِيلَ ولم يقل منزل ثم إن ههنا بلاغة أخرى وهي أن المفعول قد يذكر ويراد به المصدر على ضد ما ذكرنا كما في قوله مُدْخَلَ صِدْقٍ


الصفحة التالية
Icon