شوائب الرغبة امتنع أن يحصل معه الفعل وذلك لأنه عندما تحصل النفرة والرغبة لم يحصل الفعل ألبتة فعند حصول النفرة انضم إلى عدم المقتضي وجود المانع فبأن يصير الفعل ممتنعاً أولى فثبت أن هذه الآية من أقوى الدلائل على القضاء والقدر
وَإِنِّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً
ثم قال تعالى وَإِنّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ
اعلم أن نوحاً عليه السلام إنما دعاهم إلى العبادة والتقوى والطاعة لأجل أن يغفر لهم فإن المقصود الأول هو حصول المغفرة وأما الطاعة فهي إنما طلبت ليتوسل بها إلى تحصيل المغفرة ولذلك لما أمرهم بالعبادة قال يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ ( نوح ٤ ) فلما كان المطلوب الأول من الدعوة حصول المغفرة لا جرم قال وَإِنّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ واعلم أنه عليه السلام لما دعاهم عاملوه بأشياء
أولها قوله جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِى ءاذانِهِمْ والمعنى أنهم بلغوا في التقليد إلى حيث جعلوا أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا الحجة والبينة
وثانيها قوله وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ أي تغطوا بها إما لأجل أن لا يبصروا وجهه كأنهم لم يجوزوا أن يسمعوا كلامه ولا أن يروا وجهه وإما لأجل المبالغة في أن لا يسمعوا فإنهم إذا جعلوا أصابعهم في آذانهم ثم استغشوا ثيابهم مع ذلك صار المانع من السماع أقوى
وثالثها قوله وَأَصَرُّواْ والمعنى أنهم أصروا على مذهبهم أو على إعراضهم عن سماع دعوة الحق
ورابعها قوله وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً أي عظيماً بالغاً إلى النهاية القصوى
ثم قال تعالى
ثُمَّ إِنِّى دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّى أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً
واعلم أن هذه الآيات تدل على أن مراتب دعوته كانت ثلاثة فبدأ بالمناصحة في السر فعاملوه بالأمور الأربعة ثم ثنى بالمجاهرة فلما لم يؤثر جمع بين الإعلان والإسرار وكلمة ثُمَّ دالة على تراخي بعض هذه المراتب عن بعض إما بحسب الزمان أو بحسب الرتبة لأن الجهار أغلظ من الإسرار والجمع بين الإسرار والجهار أغلظ من الجهار وحده فإن قيل بم انتصب جِهَاراً قلنا فيه وجوه أحدها أنه منصوب بدعوتهم نصب المصدر لأن الدعاء أحد نوعيه الجهار فنصب به نصب القرفصاء بقعد لكونها أحد أنواع القعود وثانيها أنه أريد بدعوتهم جاهرتهم وثالثها أن يكون صفة لمصدر دعا بمعنى دعاء جهاراً أي مجاهراً به ورابعها أن يكون مصدراً في موضع الحال أي مجاهراً