خلقهم من الأرض ثم يردهم إليها ثم يخرجهم منها مرة أخرى أما قوله أَنبَتَكُمْ مّنَ الاْرْضِ نَبَاتاً ففيه مسألتان
المسألة الأولى في هذه الآية وجهان أحدهما معنى قوله أَنبَتَكُمْ مّنَ الاْرْضِ أي أنبت أباكم من الأرض كما قال إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ( آل عمران ٥٩ ) والثاني أنه تعالى أنبت الكل من الأرض لأنه تعالى إنما يخلقنا من النطف وهي متولدة من الأغذية المتولدة من النبات المتولد من الأرض
المسألة الثانية كان ينبغي أن يقال أنبتكم إنباتاً إلا أنه لم يقل ذلك بل قال أنبتكم نباتاً والتقدير أنبتكم فنبتم نباتاً وفيه دقيقة لطيفة وهي أنه لو قال أنبتكم إنباتاً كان المعنى أنبتكم إنباتاً عجيباً غريباً ولما قال أنبتكم نباتاً كان المعنى أنبتكم فنبتم نباتاً عجيباً وهذا الثاني أولى لأن الإنبات صفة لله تعالى وصفة الله غير محسوسة لنا فلا نعرف أن ذلك الإنبات إنبات عجيب كامل إلا بواسطة إخبار الله تعالى وهذا المقام مقام الاستدلال على كمال قدرة الله تعالى فلا يمكن إثباته بالسمع أما لما قال أَنبَتَكُمْ نَبَاتاً على معنى أنبتكم فنبتم نباتاً عجيباً كاملاً كان ذلك وصفاً للنبات بكونه عجيباً كاملاً وكون النبات كذلك أمر مشاهد محسوس فيمكن الاستدلال به على كمال قدرة الله تعالى فكان هذا موافقاً لهذا المقام فظهر أن العدول من تلك الحقيقة إلى هذا المجاز كان لهذا السر اللطيف أما قوله ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا فهو إشارة إلى الطريقة المعهودة في القرآن من أنه تعالى لما كان قادراً على الابتداء كان قادراً على الإعادة وقوله وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً أكده بالمصدر كأنه قال يخرجكم حقاً لا محالة
الدليل الرابع قوله تعالى
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً
أي طرقاً واسعة واحدها فج وهو مفسر فيما تقدم
واعلم أن نوحاً عليه السلام لما دعاهم إلى الله ونبههم على هذه الدلائل الظاهرة حكى عنهم أنواع قبائحهم وأقوالهم وأفعالهم
قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى وَاتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً
فالأول قوله قَالَ نُوحٌ رَّبّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى وذلك لأنه قال في أول السورة أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ( نوح ٣ ) فكأنه قال قلت لهم أطيعون فهم عصوني
الثاني قوله وَاتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً وفيه مسألتان
المسألة الأولى ذكر في الآية الأولى أنهم عصوه وفي هذه الآية أنهم ضموا إلى عصيانه معصية أخرى وهي طاعة رؤسائهم الذين يدعونهم إلى الكفر وقوله مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً يعني هذان وإن كانا من جملة المنافع في الدنيا إلا أنهما لما صارا سبباً للخسارة في الآخرة فكأنهما صارا محض الخسار


الصفحة التالية
Icon