النهار يضطرب فيه الناس ويتقلبون فيه للمعاش والثاني أثقل وأغلظ على المصلى من صلاة النهار وهو من قولك اشتدت على القوم وطأة سلطانهم إذا ثقل عليهم معاملتهم معه وفي الحديث ( اللهم أشدد وطأتك على مضر ) فأعلم الله نبيه أن الثواب في قيام الليل على قدر شدة الوطأة وثقلها ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام ( أفضل العبادات أحمزها ) أي أشقها واختار أبو عبيدة القراءة الأولى قال لأنه تعالى لما أمره بقيام الليل ذكر هذه الآية فكأنه قال إنما أمرتك بصلاة الليل لأن موافقة القلب واللسان فيه أكمل وأيضاً الخواطر الليلية إلى المكاشفات الروحانية أتم
قوله تعالى وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً فيه مسألتان
المسألة الأولى أَقْوَمُ قَلِيلاً قال ابن عباس أحسن لفظاً قال ابن قتيبة لأن الليل تهدأ فيه الأصوات وتنقطع فيه الحركات ويخلص القول ولا يكون دون تسمعه وتفهمه حائل
المسألة الثانية قرأ أنس ( وأصوب قيلا ) فقيل له يا أبا حمزة إنما هي وَأَقْوَمُ قِيلاً فقال أنس ( إن أقوم ) وأصوب وأهيأ واحد قال ابن جني وهذا يدل على أن القوم كانوا يعتبرون المعاني فإذا وجدوها لم يلتفتوا إلى الألفاظ ونظيره ما روى أن أبا سوار الغنوي كان يقرأ ( فحاسوا خلال الديار ) بالحاء غير المعجمة فقيل له إنما هو جاسوا فقال حاسوا وجاسوا واحدو أنا أقول يجب أن نحمل ذلك على أنه إنما ذكر ذلك تفسيراً للفظ القرآن لا على أنه جعله نفس القرآن إذ لو ذهبنا إلى ما قاله ابن جني لارتفع الاعتماد عن ألفاظ القرآن ولجوزنا أن كل أحد عبر عن المعنى بلفظ رآه مطابقاً لذلك المعنى ثم ربما أصاب في ذلك الاعتقاد وربما أخطأ وهذا يجر إلى الطعن في القرآن فثبت أنه حمل ذلك على ما ذكرناه
إِنَّ لَكَ فِى النَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً
وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال المبرد سبحاً أي تقلباً فيما يجب ولهذا سمي السابح سابحاً لتقلبه بيديه ورجليه ثم في كيفية المعنى وجهان الأول إن لك في النهار تصرفاً وتقلباً في مهماتك فلا تتفرغ لخدمة الله إلا بالليل فلهذا السبب أمرتك بالصلاة في الليل الثاني قال الزجاج أي إن فاتك من الليل شيء من النوم والراحة فلك في النهار فراغه فاصرفه إليه
المسألة الثانية قرىء سبخاً بالخاء المنقطة من فوق وهو استعارة من سبخ الصوف وهو نفشه ونشر أجزائه فإن القلب في النهار يتفرغ بسبب الشواغل وتختلف همومه بسبب الموجبات المختلفة واعلم أنه تعالى أمر رسوله أولاً بقيام الليل ثم ذكر السبب في أنه لم خص الليل بذلك دون النهار ثم بين أن أشرف الأعمال المأمور بها عند قيام الليل ما هو
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً
وهذه الآية تدل على أنه تعالى أمر بشيئين أحدهما الذكر والثاني التبتل أما الذكر فاعلم أنه إنما قال كَفُوراً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ ههنا وقال في آية أخرى وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً ( الأعراف ٢٠٥ ) لأنه لا بد في أول الأمر من ذكر الاسم باللسان مدة ثم يزول الاسم


الصفحة التالية
Icon