والحداد السجان الذي يحبس النار فأنزل الله تعالى وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَة ً واعلم أنه تعالى إنما جعلهم ملائكة لوجوه أحدها ليكونوا بخلاف جنس المعذبين لأن الجنسية مظنة الرأفة والرحمة ولذلك بعث الرسول المبعوث إلينا من جنسنا ليكون له رأفة ورحمة بنا وثانيها أنهم أبعد الخلق عن معصية الله تعالى وأقواهم على الطاعات الشاقة وثالثها أن قوتهم أعظم من قوة الجن والإنس فإن قيل ثبت في الأخبار أن الملائكة مخلوقون من النور والمخلوق من النور كيف يطيق المكث في النار قلنا مدار القول في إثبات القيامة على كونه تعالى قادراً على كل الممكنات فكما أنه لا استبعاد في أن يبقى الحي في مثل ذلك العذاب الشديد أبد الآباد ولا يموت فكذا لا استبعاد في بقاء الملائكة هناك من غير ألم
ثم قال تعالى وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَة ً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَة ً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى هذا العدد إنما صار سبباً لفتنة الكفار من وجهين الأول أن الكفار يستهزئون يقولون لم لم يكونوا عشرين وما المقتضى لتخصيص هذا العدد بالوجود الثاني أن الكفار يقولون هذا العدد القليل كيف يكونون وافين بتعذيب أكثر خلق العالم من الجن والإنس من أول ما خلق الله إلى قيام القيامة وأما أهل الإيمان فلا يلتفتون إلى هذين السؤالين
أما السؤال الأول فلأن جملة العالم متناهية فلا بد وأن يكون للجواهر الفردة التي منها تألفت جملة هذا العالم عدد معين وعند ذلك يجيء ذلك السؤال وهو أنه لم خصص ذلك العدد بالإيجاد ولم يزد على ذلك العدد جوهر آخر ولم ينقص وكذا القول في إيجاد العالم فإنه لما كان العالم محدثاً والإله قديماً فقد تأخر العالم عن الصانع بتقدير مدة غير متناهية فلم لم يحدث العالم قبل أن حدث بتقدير لحظة أو بعد أن وجد بتقدير لحظة وكذا القول في تقدير كل واحد من المحدثات بزمانه المعين وكل واحد من الأجسام بأجزائه المحدودة المعدودة ولا جواب عن شيء من ذلك إلا بأنه قادر مختار والمختار له أن يرجح الشيء على مثله من غير علة وإذا كان هذا الجواب هو المعتمد في خلق جملة العالم فكذا في تخصيص زبانية النار بهذا العدد
وأما السؤال الثاني فضعيف أيضاً لأنه لا يبعد في قدرة الله تعالى أن يعطي هذا العدد من القدرة والقوة ما يصيرون به قادرين على تعذيب جملة الخلق ومتمكنين من ذلك من غير خلل وبالجملة فمدار هذين السؤالين على القدح في كمال قدرة الله فأما من اعترف بكونه تعالى قادراً على مالا نهاية له من المقدورات وعلم أنه أحوال القيامة على خلاف أحوال الدنيا زال عن قلبه هذه الاستبعادات بالكلية
المسألة الثانية احتج من قال إنه تعالى قد يريد الإضلال بهذه الآية قال لأن قوله تعالى وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَة ً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ


الصفحة التالية
Icon