هذه السورة من أولها إلى آخرها مرتبة في تقريع الكفار على كفرهم وتخويفهم عليه فهذه الآية يجب أن تكون مذكورة لهذا الغرض وإلا لتفككت السورة في نظمها وترتيبها والنظم إنما يبقى لو كان هذا الوعد حاصلاً للمؤمنين بسبب إيمانهم لأنه لما تقدم وعيد الكافر بسبب كفره وجب أن يقرن ذلك بوعد المؤمن بسبب إيمانه حتى يصير ذلك سبباً في الزجر عن الكفر فأما أن يقرن به وعد المؤمن بسبب طاعته فذلك غير لائق بهذا النظم والترتيب فثبت بما ذكرنا أن المراد من قوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ كل من كان متقياً عن الشرك والكفر وثالثها أن حمل اللفظ على المسمى الكامل أولى وأكمل أنواع التقوى هو التقوى عن الكفر والشرك فكان حمل اللفظ عليه أولى
المسألة الثانية أنه تعالى لما بعث الكفار إلى ظل ذي ثلاث شعب أعد في مقابلته للمؤمنين ثلاثة أنواع من النعمة أولها قوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى ظِلَالٍ وَعُيُونٍ كأنه قيل ظلالهم ما كانت ظليلة وما كانت مغنية عن اللهب والعطش أما المتقون فظلالهم ظليلة وفيها عيون عذبة مغنية لهم عن العطش وحاجزة بينهم وبين اللهب ومعهم الفواكه التي يشتهونها ويتمنونها ولما قال للكفار انطَلِقُواْ إِلَى ظِلّ ذِى ثَلَاثِ شُعَبٍ قال للمتقين كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً فإما أن يكون ذلك الإذن من جهة الله تعالى لا بواسطة وما أعظمها أو من جهة الملائكة على وجه الإكرام ومعنى هَنِيئَاً أي خالص اللذة لا يشوبه سقم ولا تنغيص
المسألة الثالثة اختلف العلماء في أن قوله كُلُواْ وَاشْرَبُواْ أمر أو إذن قال أبو هاشم هو أمر وأراد الله منهم الأكل والشرب لأن سرورهم يعظم بذلك وإذا علموا أن الله أراده منهم جزاء على عملهم فكما يزيد إجلالهم وإعظامهم بذلك فكذلك يريد نفس الأكل والشرب معهم وقال أبو علي ذلك ليس بأمر وإنما يريد بقوله على وجه الإكرام لأن الأمر والنهي إنما يحصلان في زمان التكليف وليس هذا صفة الآخرة
المسألة الرابعة تمسك من قال العمل يوجب الثواب بالباء في قوله بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وهذا ضعيف لأن الباء للإضافة ولما جعل الله تعالى ذلك العمل علامة لهذا الثواب كان الإتيان بذلك العمل كالآلة الموصلة إلى تحصيل ذلك الثواب وقوله إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ المقصود منه أن يذكر الكفار ما فاتهم من النعم العظيمة ليعلموا أنهم لو كانوا من المتقين المحسنين لفازوا بمثل تلك الخيرات وإذا لم يفعلوا ذلك لا جرم وقعوا فيما وقعوا فيه
كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ
اعلم أن هذا هو النوع التاسع من أنواع تخويف الكفار كأنه تعالى يقول للكافر حال كونه في الدنيا إنك إنما عرضت نفسك لهذه الآفات التي وصفناها ولهذه المحن التي شرحناها لأجل حبك للدنيا ورغبتك في طيباتها وشهواتها إلا أن هذه الطيبات قليلة بالنسبة إلى تلك الآفات العظيمة والمشتغل بتحصيلها يجري مجرى لقمة واحدة من الحلواء وفيها السم المهلك فإنه يقال لمن يريد أكلها ولا يتركها بسبب نصيحة


الصفحة التالية
Icon