اعلم أنه تعالى لما أورد البرهان أولاً من حال سائر الحيوانات وهو وقوف الطير في الهواء أورد البرهان بعده من أحوال الناس وهو هذه الآية وذكر من عجائب ما فيه حال السمع والبصر والفؤاد ولقد تقدم شرح أحوال هذه الأمور الثلاثة في هذا الكتاب مراراً فلا فائدة في الإعادة واعلم أن في ذكرها ههنا تنبيهاً على دقيقة لطيفة كأنه تعالى قال أعطيتكم هذه الإعطاءات الثلاثة مع ما فيها من القوى الشريفة لكنكم ضيعتموها فلم تقبلوا ما سمعتموه ولا اعتبرتم بما أبصرتموه ولا تأملتم في عاقبة ما عقلتموه فكأنكم ضيعتم هذه النعم وأفسدتم هذه المواهب فلهذا قال قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ وذلك لأن شكر نعمة الله تعالى هو أن يصرف تلك النعمة إلى وجه رضاه وأنتم لما صرفتم السمع والبصر والعقل لا إلى طلب مرضاته فأنتم ما شكرتم نعمته ألبتة
البرهان الثالث قوله تعالى
قُلْ هُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
اعلم أنه تعالى استدل بأحوال الحيوانات أولاً ثم بصفات الإنسان ثانياً وهي السمع والبصر والعقل ثم بحدوث ذاته ثالثاً وهو قوله هُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الاْرْضِ واحتج المتكلمون بهذه الآية على أن الإنسان ليس هو الجوهر المجرد عن التحيز والكمية على ما يقوله الفلاسفة وجماعة من المسلمين لأنه قال قُلْ هُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الاْرْضِ فبين أنه ذرأ الإنسان في الأرض وهذا يقتضي كون الإنسان متحيزاً جسماً واعلم أن الشروع في هذه الدلائل إنما كان لبيان صحة الحشر والنشر ليثبت ما ادعاه من الابتلاء في قوله لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ( الملك ٢ ) ثم لأجل إثبات هذا المطلوب ذكر وجوهاً من الدلائل على قدرته ثم ختمها بقوله قُلْ هُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الاْرْضِ ولما كانت القدرة على الخلق ابتداء توجب القدرة على الإعادة لا جرم قال بعده وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فبين بهذا أن جميع ما تقدم ذكره من الدلائل إنما كان لإثبات هذا المطلوب
واعلم أنه تعالى لما أمر محمداً ( ﷺ ) بأن يخوفهم بعذاب الله حكى عن الكفار شيئين أحدهما أنهم طالبوه بتعيين الوقت
بم وهو قوله تعالى
وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال أبو مسلم إنه تعالى قال يقول بلفظ المستقبل فهذا يحتمل ما يوجد من الكفار من هذا القول في المستقبل ويحتمل الماضي والتقدير فكانوا يقولون هذا الوعد
المسألة الثانية لعلهم كانوا يقولون ذلك على سبيل السخرية ولعلهم كانوا يقولونها إبهاماً للضعفة أنه لما لم يتعجل فلا أصل له
المسألة الثالثة الوعد المسؤول عنه ما هو فيه وجهان أحدهما أنه القيامة والثاني أنه مطلق العذاب وفائدة هذا الاختلاف تظهر بعد ذلك إن شاء الله


الصفحة التالية
Icon