اعلم أنا بينا أنهم لا يدعون إلى السجود تعبداً وتكليفاً ولكن توبيخاً وتعنيفاً على تركهم السجود في الدنيا ثم إنه تعالى حال ما يدعوهم إلى السجود يسلب عنهم القدرة على السجود ويحول بينهم وبين الاستطاعة حتى تزداد حسرتهم وندامتهم على ما فرطوا فيه حين دعوا إلى السجود وهم سالموا الأطراف والمفاصل قال الجبائي لما خصص عدم الاستطاعة بالآخرة دل ذلك على أنهم في الدنيا كانوا يستطيعون فبطل بهذا قول من قال الكافر لا قدرة له على الإيمان وإن القدرة على الإيمان لا تحصل إلا حال وجود الإيمان والجواب عنه أن علم الله بأنه لا يؤمن مناف لوجود الإيمان والجمع بين المتنافيين محال فالاستطاعة في الدنيا أيضاً غير حاصلة على قول الجبائي
أما قوله خَاشِعَة ً أَبْصَارُهُمْ فهو حال من قوله لاَ يَسْتَطِيعُونَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّة ٌ يعني يلحقهم ذل بسبب أنهم ما كانوا مواظبين على خدمة مولاهم مثل العبد الذي أعرض عنه مولاه فإنه يكون ذليلاً فيما بين الناس وقوله وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ يعني حين كانوا يدعون إلى الصلوات بالأذان والإقامة وكانوا سالمين قادرين على الصلاة وفي هذا وعيد لمن قعد عن الجماعة ولم يجب المؤذن إلى إقامة الصلاة في الجماعة
فَذَرْنِى وَمَن يُكَذِّبُ بِهَاذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما خوف الكفار بعظمة يوم القيامة زاد في التخويف فخوفهم بما عنده وفي قدرته من القهر فقال ذرني وإياه يريد كله إليَّ فإني أكفيكه كأنه يقول يا محمد حسبك انتقاماً منه أن تكل أمره إلي وتخلي بيني بينه فإني عالم بما يجب أن يفعل به قادر على ذلك ثم قال سَنَسْتَدْرِجُهُم يقال استدرجه إلى كذا إذا استنزله إليه درجة فدرجة حتى يورطه فيه وقوله مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ قال أبو روق سَنَسْتَدْرِجُهُم أي كلما أذنبوا ذنباً جددنا لهم نعمة وأنسيناهم الاستغفار فالإستدراج إنما حصل في الاغتناء الذي لا يشعرون أنه استدراج وهو الإنعام عليهم لأنهم يحسبونه تفضيلاً لهم على المؤمنين وهو في الحقيقة سبب لهلاكهم ثم قال
وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ
أي أمهلهم كقوله إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً ( آل عمران ١٧٨ ) وأطيل لهم المدة والملاوة المدة من الدهر يقال أملى الله له أي أطال الله له الملاوة والملوان الليل والنهار والملأ مقصوراً الأرض الواسعة سميت به لامتدادها وقيل وَأُمْلِى لَهُمْ أي بالموت فلا أعاجلهم به ثم إنه إنما سمي إحسانه كيداً كما سماه استدراجاً لكون في صورة الكيد ووصفه بالمتانة لقوة أثر إحسانه في التسبب للهلاك واعلم أن الأصحاب تمسكوا بهذه الآية في مسألة إرادة الكائنات فقالوا هذا الذي سماه بالاستدراج وذلك الكيد إما أن يكون له أثر في ترجيح جانب الفعل على جانب الترك أو يكون له فيه أثر والأول باطل وإلا لكان هو سائر الأشياء الأجنبية بمثابة واحدة فلا يكون استدراجاً ألبتة ولا كيداً وأما الثاني فهو يقتضي كونه تعالى مريداً لذلك الفعل الذي ينساق إليه ذلك الاستدراج وذلك الكيد لأنه إذا


الصفحة التالية
Icon