في جميع العالم فلما قدر الصانع على جمع تلك الأجزاء المتفرقة حتى خلق منها إنساناً سوياً وجب أن يقال إنه بعد موته وتفرق أجزائه لا بد وأن يقدر الصانع على جمع تلك الأجزاء وجعلها خلقاً سوياً كما كان أولاً ولهذا السر لما بين تعالى دلالته على المبدأ فرع عليه أيضاً دلالته على صحة المعاد فقال
إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى الضمير في أنه للخالق مع أنه لم يتقدم ذكره والسبب فيه وجهان الأول دلالة خلق عليه والمعنى أن ذلك الذي خلق قادر على رجعه الثاني أنه وإن لم يتقدم ذكره لفظاً ولكن تقدم ذكر ما يدل عليه سبحانه وقد تقرر في بدائة العقول أن القادر على هذه التصرفات هو الله سبحانه وتعالى فلما كان ذلك في غاية الظهور كان كالمذكور
المسألة الثانية الرجع مصدر رجعت الشيء إذا رددته والكناية في قوله على رجعه إلى أي شيء ترجع فيه وجهان أولهما وهو الأقرب أنه راجع إلى الإنسان والمعنى أن الذي قدر على خلق الإنسان ابتداء وجب أن يقدر بعد موته على رده حياً وهو كقوله تعالى قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( يس ٧٩ ) وقوله وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ( الروم ٢٧ ) وثانيهما أن الضمير غير عائد إلى الإنسان ثم قال مجاهد قادر على أن يرد الماء في الإحليل وقال عكرمة والضحاك على أن يرد الماء في الصلب وروي أيضاً عن الضحاك أنه قادر على رد الإنسان ماء كما كان قبل وقال مقاتل بن حيان إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب ومن الشباب إلى الصبا ومن الصبا إلى النطفة واعلم أن القول الأول أصح ويشهد له قوله يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ أي أنه قادر على بعثه يوم القيامة ثم إنه سبحانه لما أقام الدليل على صحة القول بالبعث والقيامة وصف حاله في ذلك اليوم فقال
يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآئِرُ فَمَا لَهُ مِن قُوَّة ٍ وَلاَ نَاصِرٍ
وفيه مسائل
المسألة الأولى يَوْمٍ منصوب برجعه ومن جعل الضمير في رجعه للماء وفسره برجعه إلى مخرجه من الصلب والترائب أو إلى الحالة الأولى نصب الظرف بقوله فَمَا لَهُ مِن قُوَّة ٍ أي ماله من قوة ذلك اليوم
المسألة الثانية تُبْلَى أي تختبر والسرائر ما أسر في القلوب من العقائد والنيات وما أخفى من الأعمال وفي كيفية الابتلاء والاختبار ههنا أقوال
الأول ما ذكره القفال معنى الاختبار ههنا أن أعمال الإنسان يوم القيامة تعرض عليه وينظر أيضاً في الصحيفة التي كتبت الملائكة فيها تفاصيل أعمالهم ليعلم أن المذكور هل هو مطابق للمكتوب ولما كانت المحاسبة يوم القيامة واقعة على هذا الوجه جاز أن يسمى هذا المعنى ابتلاء وهذه التسمية غير بعيدة لعباده لأنها ابتلاء وامتحان وإن كان عالماً بتفاصيل ما عملوه وما لم يعملوه
والوجه الثاني أن الأفعال إنما يستحق عليها الثواب والعقاب لوجوهها فرب فعل يكون ظاهره حسناً


الصفحة التالية
Icon