العقلية فنقول القرآن والبرهان تطابقا على أن هذا الاطمئنان لا يحصل إلا بذكر الله أما القرآن فقوله أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( الرعد ٢٨ ) وأما البرهان فمن وجهين الأول أن القوة العاقلة إذا أخذت تترقى في سلسلة الأسباب والمسببات فكلما وصل إلى سبب يكون هو ممكناً لذاته طلب العقل له سبباً آخر فلم يقف العقل عنده بل لا يزال ينتقل من كل شيء إلى ما هو أعلى منه حتى ينتهي في ذلك الترقي إلى واجب الوجود لذاته مقطع الحاجات ومنتهى الضرورات فلما وقفت الحاجة دونه وقف العقل عنده واطمأن إليه ولم ينتقل عنه إلى غيره فإذاً كلما كانت القوة العاقلة ناظرة إلى شيء من الممكنات ملتفة إليه استحال أن تستقر عنده وإذا نظرت إلى جلال واجب الوجود وعرفت أن الكل منه استحال أن تنتقل عنه فثبت أن الاطمئنان لا يحصل إلا بذكر واجب الوجود الثاني أن حاجات العبد غير متناهية وكل ما سوى الله تعالى فهو متناهي البقاء والقوة إلا بامداد الله وغير المتناهي لا يصير مجبوراً بالمتناهي فلا بد في مقابلة حاجة العبد التي لا نهاية لها من كمال الله الذي لا نهاية له حتى يحصل الاستقرار فثبت أن كل من آثر معرفة الله لا لشيء غير الله فهو غير مطمئن وليست نفسه نفساً مطمئنة أما من آثر معرفة الله لشيء سواه فنفسه هي النفس المطمئنة وكل من كان كذلك كان أنسه بالله وشوقه إلى الله وبقاؤه بالله وكلامه مع الله فلا جرم يخاطب عند مفارقته الدنيا بقوله ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ رَاضِيَة ً مَّرْضِيَّة ً وهذا كلام لا ينتفع الإنسان به إلا إذا كان كاملاً في القوة الفكرية الإلهية أو في التجريد والتفريد
المسألة الثالثة اعلم أن الله تعالى ذكر مطلق النفس في القرآن فقال وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ( الشمس ٧ ) وقال تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ( المائدة ١١٦ ) وقال فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِى َ لَهُم مّن قُوَّة َ أَعْيُنِ ( السجدة ١٧ ) وتارة وصفها بكونها أمارة بالسوء فقال إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَة ٌ بِالسُّوء ( يوسف ٥٣ ) وتارة بكونها لوامة فقال بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَة ِ ( القيامة ٢ ) وتارة بكونها مطمئنة كما في هذه الآية واعلم أن نفس ذاتك وحقيقتك وهي التي تشير إليها بقولك ( أنا ) حين تخبر عن نفسك بقولك فعلت ورأيت وسمعت وغضبت واشتهيت وتخيلت وتذكرت إلا أن المشار إليه بهذه الإشارة ليس هو هذه البنية لوجهين الأول أن المشار إليه بقولك ( أنا ) قد يكون معلوماً حال ما تكون هذه البنية المخصوصة غير معلومة والمعلوم غير ما هو غير معلوم والثاني أن هذه البنية متبدلة الأجزاء والمشار إليه بقولك ( أنا ) غير متبدل فإني أعلم بالضرورة أني أنا الذي كنت موجوداً قبل هذا اليوم بعشرين سنة والمتبدل غير ما هو غير متبدل فإذاً ليست النفس عبارة عن هذه البنية وتقول قال قوم إن النفس ليست بجسم لأنا قد نعقل المشار إليه بقوله ( أنا ) حال ما أكون غافلاً عن الجسم الذي حقيقته المختص بالحيز الذاهب في الطول والعرض والعمق والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم وجواب المعارضة بالنفس مذكور في كتابنا المسمى بلباب الإشارات وقال آخرون بل هو جوهر جسماني لطيف صاف بعيد عن مشابهة الأجرام العنصرية نوراني سماوي مخالف بالماهية لهذه الأجسام السفلية فإذا صارت مشابكة لهذا البدن الكثيف صار البدن حياً وإن فارقته صار البدن ميتاً وعلى التقدير الأول يكون وصفها بالمجيء والرجوع بمعنى التدبير وتركه وعلى التقدير الثاني يكون ذلك الوصف حقيقاً
المسألة الرابعة من القدماء من زعم أن النفوس أزلية واحتجوا بهذه الآية وهي قوله ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ فإن هذا إنما يقال لما كان موجوداً قبل هذا البدن


الصفحة التالية
Icon