يصح على الباقي وأما الإثنان السفليان فأحدهما قوله وَإِذَا الْبِحَارُ فُجّرَتْ وفيه وجوه أحدهما أنه ينفذ بعض البحار في البعض بارتفاع الحاجز الذي جعله الله برزخاً وحينئذ يصير الكل بحراً واحداً وإنما يرتفع ذلك الحاجز لتزلزل الأرض وتصدعها وثانيها أن مياه البحار الآن راكدة مجتمعة فإذا فجرت تفرقت وذهب ماؤها وثالثها قال الحسن فجرت أي يبست
واعلم أن على الوجوه الثلاثة فالمراد أنه تتغير البحار عن صورتها الأصلية وصفتها وهو كما ذكر أنه تغير الأرض عن صفتها في قوله يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ غَيْرَ الاْرْضِ ( ابراهيم ٤٨ ) وتغير الجبال عن صفتها في قوله فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً ( طه ١٠٦ ١٠٥ ) ورابعها قرأ بعضهم فُجّرَتْ بالتخفيف وقرأ مجاهد فُجّرَتْ على البناء للفاعل والتخفيف بمعنى بغت لزوال البرزخ نظراً إلى قوله لاَّ يَبْغِيَانِ ( الرحمن ٢٠ ) لأن البغي والفجور أخوان
وأما الثاني فقوله وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ فاعلم أن بعثر وبحثر بمعنى واحد ومركبان من البعث والبحث مع راء مضمومة إليهما والمعنى أثيرت وقلب أسفلها أعلاها وباطنها ظاهرها ثم ههنا وجهان أحدهما أن القبور تبعثر بأن يخرج ما فيها من الموتى أحياء كما قال تعالى وَأَخْرَجَتِ الارْضُ أَثْقَالَهَا ( الزلزلة ٢ ) والثاني أنها تبعثر لإخراج ما في بطنها من الذهب والفضة وذلك لأن من أشراط الساعة أن تخرج الأرض أفلاذ كبدها من ذهبها وفضتها ثم يكون بعد ذلك خروج الموتى والأول أقرب لأن دلالة القبور على الأول أتم
المقام الثاني في فائدة هذا الترتيب واعلم أن المراد من هذه الآيات بيان تخريب العالم وفناء الدنيا وانقطاع التكاليف والسماء كالسقف والأرض كالبناء ومن أراد تخريب دار فإنه يبدأ أولاً بتخريب السقف وذلك هو قوله إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ثم يلزم من تخريب السماء انتثار الكواكب وذلك هو قوله وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ثم إنه تعالى بعد تخريب السماء والكواكب يخرب كل ما على وجه الأرض وهو قوله وَإِذَا الْبِحَارُ فُجّرَتْ ثم إنه تعالى يخرب آخر الأمر الأرض التي هي البناء وذلك هو قوله وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ فإنه إشارة إلى قلب الأرض ظهراً لبطن وبطناً لظهر
المقام الثالث في تفسير قوله عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ وفيه احتمالان الأول أن المراد بهذه الأمور ذكر يوم القيامة ثم فيه وجوه أحدها وهو الأصح أن المقصود منه الزجر عن المعصية والترغيب في الطاعة أي يعلم كل أحد في هذا اليوم ماقدم فلم يقصر فيه وما أخر فقصر فيه لأن قوله مَّا قَدَّمَتْ يقتضي فعلاً و مَا يقتضي تركاً فهذا الكلام يقتضي فعلاً وتركاً وتقصيراً وتوفيراً فإن كان قدم الكبائر وأخر العمل الصالح فمأواه النار وإن كان قدم العمل الصالح وأخر الكبائر فمأواه الجنة وثانيها ما قدمت من عمل أدخله في الوجود وماأخرت من سنة يستن بها من بعده من خير أو شر وثالثها قال الضحاك ما قدمت من الفرائض وما أخرت أي ما ضيعت ورابعها قال أبو مسلم ما قدمت من الأعمال في أول عمرها وما أخرت في آخر عمرها فإن قيل وفي أي موقف من مواقف القيامة يحصل هذا العلم قلنا أما العلم الإجمالي فيحصل في أول زمان الحشر لأن المطيع يرى آثار السعادة والعاصي يرى آثار الشقاوة في أول الأمر وأما العلم التفصيل فإنما يحصل عند قراءة الكتب والمحاسبة