وأنعم عليه بالنعم التي قدمنا ذكرها إذ أغناه وزاد في النعمة عليه فإنه يطغى ويتجاوز الحد في المعاصي واتباع هوى النفس وذلك وعيد وزجر عن هذه الطريقة ثم إنه تعالى أكد هذا الزجر بقوله إِنَّ إِلَى رَبّكَ الرُّجْعَى أي إلى حيث لا مالك سواه فتقع المحاسبة على ما كان منه من العمل والمؤاخذة بحسب ذلك
المسألة الثانية قوله كَلاَّ فيه وجوه أحدها أنه ردع وزجر لمن كفر بنعمة الله بطغيانه وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه وثانيها قال مقاتل كلا لا يعلم الإنسان إن الله هو الذي خلقه من العلقة وعلمه بعد الجهل وذلك لأنه عند صيرورته غنياً يطغى ويتكبر ويصير مستغرق القلب في حب الدنيا فلا يتفكر في هذه الأحوال ولا يتأمل فيها وثالثها ذكر الجرجاني صاحب النظم أن كَلاَّ ههنا بمعنى حقاً لأنه ليس قبله ولا بعده شيء تكون كَلاَّ رداً له وهذا كما قالوه في كَلاَّ وَالْقَمَرِ فإنهم زعموا أنه بمعنى أي والقمر
المسألة الثالثة الطغيان هو التكبر والتمرد وتحقيق الكلام في هذه الآية أن الله تعالى لما ذكر في مقدمة السورة دلائل ظاهرة على التوحيد والقدرة والحكمة بحيث يبعد من العاقل أن لا يطلع عليها ولا يقف على حقائقها أتبعها بما هو السبب الأصلي في الغفلة عنها وهو حب الدنيا والاشتغال بالمال والجاه والثروة والقدرة فإنه لا سبب لعمى القلب في الحقيقة إلا ذلك فإن قيل إن فرعون ادعى الربوبية فقال الله تعالى في حقه اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى وههنا ذكر في أبي جهل لَيَطْغَى فأكده بهذه اللام فما السبب في هذه الزيادة قلنا فيه وجوه أحدها أنه قال لموسى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى وذلك قبل أن يلقاه موسى وقبل أن يعرض عليه الأدلة وقبل أن يدعي الربوبية وأما ههنا فإنه تعالى ذكر هذه الآية تسلية لرسوله حين رد عليه أقبح الرد وثانيها أن فرعون مع كمال سلطته ما كان يزيد كفره على القول وما كان ليتعرض لقتل موسى عليها السلام ولا لإيذائه وأما أبو جهل فهو مع قلة جاهه كان يقصد قتل النبي ( ﷺ ) وإيذاءه وثالثها أن فرعون أحسن إلى موسى أولاً وقال آخراً ءامَنتُ وأما أبو جهل فكان يحسد النبي في صباه وقال في آخر رمقه بلغوا عني محمداً أني أموت ولا أحد أبغض إلي منه ورابعها أنهما وإن كانا رسولين لكن الحبيب في مقابلة الكليم كاليد في مقابلة العين والعاقل يصون عينه فوق ما يصون يده بل يصون عينه باليد فلهذا السبب كانت المبالغة ههنا أكثر
أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى
أما قوله تعالى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ففيه مسائل
المسألة الأولى قال الأخفش لأن رآه فخذف اللام كما يقال أنكم لتطغون أن رأيتم غناكم
المسألة الثانية قال الفراء إنما قال أَن رَّءاهُ ولم يقل رأى نفسه كما يقال قتل نفسه لأن رأى من الأفعال التي تستدعي اسماً وخبراً نحو الظن والحسبان والعرب تطرح النفس من هذا الجنس فنقول رأيتني وظننتني وحسبتني فقوله أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى من هذا الباب
المسألة الثالثة في قوله اسْتَغْنَى وجهان أحدهما استغنى بماله عن ربه والمراد من الآية ليس هو الأول لأن الإنسان قد ينال الثروة فلا يزيد إلا تواضعاً كسليمان عليه السلام فإنه كان يجالس


الصفحة التالية
Icon