كذلك لزم إما التسلسل وإما الدور ولما كانا باطلين وجب الاعتراف بأنه لا بد من ألفاظ موضوعة وضعاً أولا حتى يجعل سائر الألفاظ مشتقة منها وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز في هذا اللفظ الذي جعلوه مشتقاً من ذلك الآخر أن يكون الأصل هو هذا والفرع هو ذاك الآخر ومن الذي أخبرهم بأن هذا فرع وذاك أصل وربما كان هذا الذي يجعلونه فرعاً ومشتقاً في غاية الشهرة وذاك الذي يجعلونه أصلاً في غاية الخفاء وأيضاً فلو كانت التوراة إنما سميت توراة لظهورها والإنجيل إنما سمي إنجيلاً لكونه أصلاً وجب في كل ما ظهر أن يسمى بالتوراة فوجب تسمية كل الحوادث بالتوراة ووجب في كل ما كان أصلاً لشيء آخر أن يسمى بالإنجيل والطين أصل الكوز فوجب أن يكون الطين إنجيلاً والذهب أصل الخاتم والغزل أصل الثوب فوجب تسمية هذه الأشياء بالإنجيل ومعلوم أنه ليس كذلك ثم أنهم عند إيراد هذه الإلزامات عليهم لا بدّ وأن يتمسكوا بالوضع ويقولوا العرب خصصوا هذين اللفظين بهذين الشيئين على سبيل الوضع وإذا كان لا يتم المقصود في آخر الأمر إلا بالرجوع إلى وضع اللغة فلم لا نتمسك به في أول الأمر ونريح أنفسنا من الخوض في هذه الكلمات وأيضاً فالتوراة والإنجيل اسمان أعجميان أحدهما بالعبرية والآخر بالسريانية فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بتطبيقها على أوزان لغة العرب فظهر أن الأولى بالعاقل أن لا يلتفت إلى هذه المباحث والله أعلم
مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ
أما قوله تعالى وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لّلنَّاسِ
فاعلم أنه تعالى بيّن أنه أنزل التوراة والإنجيل قبل أن أنزل القرآن ثم بيّن أنه إنما أنزلهما هدى للناس قال الكعبي هذه الآية دالة على بطلان قول من يزعم أن القرآن عمي على الكافرين وليس بهدى لهم ويدل على معنى قوله وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ( فصلت ٤٤ ) أن عند نزوله اختاروا العمى على وجه المجاز كقول نوح عليه السلام فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً ( نوح ٦ ) لما فروا عنده
واعلم أن قوله هُدًى لّلنَّاسِ فيه احتمالان الأول أن يكون ذلك عائداً إلى التوراة والإنجيل فقط وعلى هذا التقدير يكون قد وصف القرآن بأنه حق ووصف التوراة والإنجيل بأنهما هدى والوصفان متقاربان
فإن قيل إنه وصف القرآن في أول سورة البقرة بأنه هدى ً للمتقين فلم لم يصفه ههنا به
قلنا فيه لطيفة وذلك لأنا ذكرنا في سورة البقرة أنه إنما قال هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة ٢ ) لأنهم هم المنتفعون به فصار من الوجه هدى ً لهم لا لغيرهم أما ههنا فالمناظرة كانت مع النصارى وهم لا يهتدون بالقرآن فلا جرم لم يقل ههنا في القرآنه أنه هدى ً بل قال إنه حق في نفسه سواء قبلوه أو لم يقبلوه وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون في صحتهما ويدعون بأنا إنما نتقول في ديننا عليهما فلا جرم وصفهما الله تعالى لأجل هذا التأويل بأنهما هدى ً فهذا ما خطر بالبال والله أعلم


الصفحة التالية
Icon