الجهل ببعض الغيب يدل قطعاً على عدم الإلاهية فهذا هو الجواب عن النوع الأول من الشبه المتعلقة بالعلم
أما النوع الثاني من الشبه وهو الشبهة المتعلقة بالقدرة فأجاب الله تعالى عنها بقوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء والمعنى أن حصول الإحياء والإماتة على وفق قوله في بعض الصور لا يدل على كونه إلاهاً لاحتمال أن الله تعالى أكرمه بذلك الإحياء إظهاراً لمعجزته وإكراماً له
أما العجز عن الإحياء والإماتة في بعض الصور يدل على عدم الإلاهية وذلك لأن الإله هو الذي يكون قادراً على أن يصور في الأرحام من قطرة صغيرة من النطفة هذا التركيب العجيب والتأليف الغريب ومعلوم أن عيسى عليه السلام ما كان قادراً على الإحياء والإماتة على هذا الوجه وكيف ولو قدر على ذلك لأمات أولئك الذين أخذوه على زعم النصارى وقتلوه فثبت أن حصول الإحياء والإماتة على وفق قوله في بعض الصور لا يدل على كونه إلاهاً أما عدم حصولهما على وفق مراده في سائر الصور يدل على أنه ما كان إلاهاً فظهر بما ذكر أن هذه الشبهة الثانية أيضاً ساقطة
وأما النوع الثاني من الشبه فهي الشبه المبنية على مقدمات إلزامية وحاصلها يرجع إلى نوعين
النوع الأول أن النصارى يقولون أيها المسلمون أنتم توافقوننا على أنه ما كان له أب من البشر فوجب أن يكون ابناً له فأجاب الله تعالى عنه أيضاً بقوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لأن هذا التصوير لما كان منه فإن شاء صوره من نطفة الأب وإن شاء صوره ابتداء من غير الأب
والنوع الثاني أن النصارى قالوا للرسول ( ﷺ ) ألست تقول إن عيسى روح الله وكلمته فهذا يدل على أنه ابن الله فأجاب الله تعالى عنه بأن هذا إلزام لفظي واللفظ محتمل للحقيقة والمجاز فإذا ورد اللفظ بحيث يكون ظاهره مخالفاً للدليل العقلي كان من باب المتشابهات فوجب رده إلى التأويل وذلك هو المراد بقوله هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ( آل عمران ٧ ) فظهر بما ذكرنا أن قوله الْحَى ُّ الْقَيُّومُ إشارة إلى ما يدل على أن المسيح ليس بإلاه ولا ابن له وأما قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء فهو جواب عن الشبهة المتعلقة بالعلم وقوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء جواب عن تمسكهم بقدرته على الإحياء والإماتة وعن تمسكهم بأنه ما كان له أب من البشر فوجب أن يكون ابناً لله وأما قوله هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ( آل عمران ٧ ) فهو جواب عن تمسكهم بما ورد في القرآن أن عيسى روح الله وكلمته ومن أحاط علماً بما ذكرناه ولخصناه علم أن هذا الكلام على اختصاره أكثر تحصيلاً من كل ما ذكره المتكلمون في هذا الباب وأنه ليس في المسألة حجة ولا شبهة ولا سؤال ولا جواب إلا وقد اشتملت هذه الآية عليه فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله وأما كلام من قبلنا من المفسرين في تفسير هذه الآيات فلم نذكره لأنه لا حاجة إليه فمن أراد ذلك طالع الكتب ثم أنه تعالى لما أجاب عن شبههم أعاد كلمة التوحيد زجراً للنصارى عن قولهم بالتثليث فقال لا إله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة والحكيم إشارة إلى كمال العلم وهو تقرير لما تقدم من أن علم المسيح ببعض الغيوب وقدرته على الإحياء والإماتة في بعض الصور


الصفحة التالية
Icon