القول الثاني وهو أيضاً مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المحكم هو الناسخ والمتشابه هو المنسوخ
والقول الثالث قال الأصم المحكم هو الذي يكون دليله واضحاً لائحاً مثل ما أخبر الله تعالى به من إنشاء الخلق في قوله تعالى ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً ( المؤمنون ١٤ ) وقوله وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَى ْء حَى ّ ( الأنبياء ٣٠ ) وقوله وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ ( البقرة ٢٢ ) والمتشابه ما يحتاج في معرفته إلى التدبر والتأمل نحو الحكم بأنه تعالى يبعثهم بعد أن صاروا تراباً ولو تأملوا لصار المتشابه عندهم محكماً لأن من قدر على الإنشاء أو لا قدر على الإعادة ثانياً
واعلم أن كلام الأصم غير ملخص فإنه إن عني بقوله المحكم ما يكون دلائله واضحة أن المحكم هو الذي يكون دلالة لفظه على معناه متعينة راجحة والمتشابه ما لا يكون كذلك وهو إما المجمل المتساوي أو المؤول المرجوح فهذا هو الذي ذكرناه أولاً وإن عني به أن المحكم هو الذي يعرف صحة معناه من غير دليل فيصير المحكم على قوله ما يعلم صحته بضرورة العقل والمتشابه ما يعلم صحته بدليل العقل وعلى هذا يصير جملة القرآن متشابهاً لأن قوله فَخَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً أمر يحتاج في معرفة صحته إلى الدلائل العقلية وإن أهل الطبيعة يقولون السبب في ذلك الطبائع والفصول أو تأثيرات الكواكب وتركيبات العناصر وامتزاجاتها فكما أن إثبات الحشر والنشر مفتقر إلى الدليل فكذلك إسناد هذه الحوادث إلى الله تعالى مفتقر إلى الدليل ولعلّ الأصم يقول هذه الأشياء وإن كانت كلها مفتقرة إلى الدليل إلا أنها تنقسم إلى ما يكون الدليل فيه ظاهراً بحيث تكون مقدماته قليلة مرتبة مبينة يؤمن الغلط معها إلا نادراً ومنها ما يكون الدليل فيه خفياً كثير المقدمات غير مرتبة فالقسم الأول هو المحكم والثاني هو المتشابه
القول الرابع أن كل ما أمكن تحصيل العلم به سواء كان ذلك بدليل جلي أو بدليل خفي فذاك هو المحكم وكل ما لا سبيل إلى معرفته فذاك هو المتشابه وذلك كالعلم بوقت قيام الساعة والعلم بمقادير الثواب والعقاب في حق المكلفين ونظيره قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ( الأعراف ١٨٧ ) ( النازعات ٤٢ )
المسألة الرابعة في الفوائد التي لأجلها جعل بعض القرآن محكماً وبعضه متشابهاً
إعلم أن من الملحدة من طعن في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات وقال إنكم تقولون إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة ثم إنا نراه بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب على مذهبه فالجبري يتمسك بآيات الجبر كقوله تعالى وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْراً ( الأنعام ١٠٣ ) والقدري يقول بل هذا مذهب الكفار بدليل أنه تعالى حكى ذلك عن الكفار في معرض الذم لهم في قوله وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ ( الأنعام ٢٥ ) وفي موضع آخر وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ( الإسراء ٤٦ ) وأيضاً مثبت الرؤية يتمسك بقوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَة ٌ ( القيامة ٢٢ ٢٣ ) والنافي يتمسك بقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ ( الأنعام ١٠٣ ) ومثبت الجهة يتمسك بقوله يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ


الصفحة التالية
Icon