على التفصيل لما كان لهم في الإيمان به مدح لأن كل من عرف شيئاً على سبيل التفصيل فإنه لا بد وأن يؤمن به إنما الراسخون في العلم هم الذين علموا بالدلائل القطعية أن الله تعالى عالم بالمعلومات التي لا نهاية لها وعلموا أن القرآن كلام الله تعالى وعلموا أنه لا يتكلم بالباطل والعبث فإذا سمعوا آية ودلّت الدلائل القطعية على أنه لا يجوز أن يكون ظاهرها مراد الله تعالى بل مراده منه غير ذلك الظاهر ثم فوضوا تعيين ذلك المراد إلى علمه وقطعوا بأن ذلك المعنى أي شيء كان فهو الحق والصواب فهؤلاء هم الراسخون في العلم بالله حيث لم يزعزعهم قطعهم بترك الظاهر ولا عدم علمهم بالمراد على التعيين عن الإيمان بالله والجزم بصحة القرآن
الحجة الرابعة لو كان قوله وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ معطوفاً على قوله إِلاَّ اللَّهُ لصار قوله يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ ابتداء وأنه بعيد عن ذوق الفصاحة بل كان الأولى أن يقال وهم يقولون آمنا به أو يقال ويقولون آمنا به
فإن قيل في تصحيحه وجهان الأول أن قوله يَقُولُونَ كلام مبتدأ والتقدير هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به والثاني أن يكون يَقُولُونَ حالا من الراسخين
قلنا أما الأول فمدفوع لأن تفسير كلام الله تعالى بما لا يحتاج معه إلى الاضمار أولى من تفسيره بما يحتاج معه إلى الاضمار والثاني أن ذا الحال هو الذي تقدم ذكره وههنا قد تقدم ذكر الله تعالى وذكر الراسخين في العلم فوجب أن يجعل قوله يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ حالا من الراسخين لا من الله تعالى فيكون ذلك تركاً للظاهر فثبت أن ذلك المذهب لا يتم إلا بالعدول عن الظاهر ومذهبنا لا يحتاج إليه فكان هذا القول أولى
الحج الخامسة قوله تعالى كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا يعني أنهم آمنوا بما عرفوه على التفصيل وبما لم يعرفوا تفصيله وتأويله فلو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل لم يبق لهذا الكلام فائدة
الحجة السادسة نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال تفسير القرآن على أربعة أوجه تفسير لا يسع أحداً جهله وتفسير تعرفه العرب بألسنتها وتفسير تعلمه العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى
وسئل مالك بن أنس رحمه الله عن الاستواء فقال الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عند بدعة وقد ذكرنا بعض هذه المسألة في أول سورة البقرة فإذا ضم ما ذكرناه ههنا إلى ما ذكرنا هناك تم الكلام في هذه المسألة وبالله التوفيق
ثم قال تعالى وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وفيه مسائل
المسألة الأولى الرسوخ في اللغة الثبوت في الشيء
واعلم أن الراسخ في العلم هو الذي عرف ذات الله وصفاته بالدلائل اليقينية القطعية وعرف أن القرآن كلام الله تعالى بالدلائل اليقينية فإذا رأى شيئاً متشابهاً ودل القطعي على أن الظاهر ليس مراد الله تعالى علم حينئذ قطعاً أن مراد الله شيء آخر سوى ما دلّ عليه ظاهره وأن ذلك المراد حق ولا يصير كون ظاهره مردوداً شبهة في الطعن في صحة القرآن


الصفحة التالية
Icon