قلت الفرق والله أعلم أن هذه الآية في مقام الهيبة يعني أن الإلاهية تقتضي الحشر والنشر لينتصف المظلومين من الظالمين فكان ذكره باسمه الأعظم أولى في هذا المقام أما قوله في آخر السورة إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ( آل عمران ١٩٤ ) فذاك المقام مقام طلب العبد من ربه أن ينعم عليه بفضله وأن يتجاوز عن سيئاته فلم يكن المقام مقام الهيبة فلا جرم قال إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ
المسألة الثالثة احتج الجبائي بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق قال وذلك لأن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد بدليل قوله تعالى أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا ( الأعراف ٤٤ ) والوعد والموعد والميعاد واحد وقد أخبر في هذه الآية أنه لا يخلف الميعاد فكان هذا دليلاً على أنه لا يخلف في الوعيد
والجواب لا نسلم أنه تعالى يوعد الفساق مطلقاً بل ذلك الوعيد عندنا مشروط بشرط عدم العفو كما أنه بالاتفاق مشروط بشرط عدم التوبة فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل سلمنا أنه يوعدهم ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد أما قوله تعالى فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا
قلنا لم لا يجوز أن يكون ذلك كما في قوله فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( آل عمران ٢١ ) وقوله ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( الدخان ٤٩ ) وأيضاً لم لا يجوز أن يكون المراد منه أنهم كانوا يتوقعون من أوثانهم أنها تشفع لهم عند الله فكان المراد من الوعد تلك المنافع وتمام الكلام في مسألة الوعيد قد مرّ في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى بَلِ مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة ٨١ ) وذكر الواحدي في البسيط طريقة أخرى فقال لم لا يجوز أن يحمل هذا على ميعاد الأولياء دون وعيد الأعداء لأن خلف الوعيد كرم عند العرب قال والدليل عليه أنهم يمدحون بذلك قال الشاعر
إذ وعد السراء أنجز وعده
وإن أوعد الضراء فالعفو مانعه
وروي المناظرة التي دارت بين أبي عمرو بن العلاء وبين عمرو بن عبيد قال أبو عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد ما تقول في أصحاب الكبائر قال أقول إن الله وعد وعداً وأوعد إيعاداً فهو منجز إيعاده كما هو منجز وعده فقال أبو عمرو بن العلاء إنك رجل أعجم لا أقول أعجم اللسان ولكن أعجم القلب إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما وعن الإيعاد كرما وأنشد وإني وإن أوعدته أو وعدته
لمكذب إيعادي ومنجز موعدي
واعلم أن المعتزلة حكوا أن أبا عمرو بن العلاء لما قال هذا الكلام قال له عمرو بن عبيد يا أبا عمرو فهل يسمى الله مكذب نفسه فقال لا فقال عمرو بن عبيد فقد سقطت حجتك قالوا فانقطع أبو عمرو بن العلاء
وعندي أنه كان لأبي عمرو بن العلاء أن يجيب عن هذا السؤال فيقول إنك قست الوعيد على الوعد وأنا إنما ذكرت هذا لبيان الفرق بين البابين وذلك لأن الوعد حق عليه والوعيد حق له ومن أسقط حق نفسه


الصفحة التالية
Icon