بقي من مباحث هذا الموضع أمران
البحث الأول أن الاحتمال الأول والثاني يقتضي أن المعدوم صار مرئياً والاحتمال الثالث يقتضي أن ما وجد وحضر لم يصر مرئياً أما الأول فهو محال عقلاً لأن المعدوم لا يرى فلا جرم وجب حمل الرؤية على الظن القوي وأما الثاني فهو جائز عند أصحابنا لأن عندنا مع حصول الشرائط وصحة الحاسد يكون الإدراك جائزاً لا واجباً وكان ذلك الزمان زمان ظهور المعجزات وخوارق العادات فلم يبعد أن يقال إنه حصل ذلك المعجز وأما المعتزلة فعندهم الإدراك واجب الحصول عند اجتماع الشرائط وسلامة الحاسد فلهذا المعنى اعتذر القاضي عن هذا الموضع من وجوه أحدها أن عند الاشتغال بالمحاربة والمقاتلة قد لا يتفرغ الإنسان لأن يدير حدقته حول العسكر وينظر إليهم على سبيل التأمل التام فلا جرم يرى البعض دون البعض وثانيها لعلّه يحدث عند المحاربة من الغبار ما يصير مانعاً عن إدراك البعض وثالثها يجوز أن يقال إنه تعالى خلق في الهواء ما صار مانعاً عن إدراك ثلث العسكر وكل ذلك محتمل
البحث الثاني اللفظ وإن احتمل أن يكون الراؤن هم المشركون وأن يكون هم المسلمون فأي الاحتمالين أظهر فقيل إن كون المشرك رائياً أولى ويدل عليه وجوه الأول أن تعلق الفعل بالفاعل أشد من تعلقه بالمفعول فجعل أقرب المذكورين السابقين فاعلاً وأبعدهما مفعولاً أولى من العكس وأقرب المذكورين هو قوله وَأُخْرَى كَافِرَة ٌ والثاني أن مقدمة الآية وهو قوله قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَة ٌ خطاب مع الكفار فقراءة نافع بالتاء يكون خطاباً مع أولئك الكفار والمعنى ترون يا مشركي قريش المسلمين مثليهم فهذه القراءة لا تساعد إلا على كون الرائي مشركاً الثالث أن الله تعالى جعل هذه الحالة آية الكفار حيث قال قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَة ٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فوجب أن تكون هذه الحالة مما يشاهدها الكافر حتى تكون حجة عليه أما لو كانت هذه الحالة حاصلة للمؤمن لم يصح جعلها حجة الكافر والله أعلم
واحتج من قال الراؤن هم المسلمون وذلك لأن الرائين لو كانوا هم المشركين لزم رؤية ما ليس بموجود وهو محال ولو كان الراؤن هم المؤمنون لزم أن لا يرى ما هو موجود وهذا ليس بمحال وكان ذلك أولى والله أعلم
ثم قال رَأْى َ الْعَيْنِ يقال رأيته رأياً ورؤية ورأيت في المنام رؤيا حسنة فالرؤية مختص بالمنام ويقول هو مني مرأى العين حيث يقع عليه بصري فقوله رَأْى َ الْعَيْنِ يجوز أن ينتصب على المصدر ويجوز أن يكون ظرفاً للمكان كما تقول ترونهم أمامكم ومثله هو مني مناط العنق ومزجر الكلب
ثم قال وَاللَّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء نصر الله المسلمين على وجهين نصر بالغلبة كنصر يوم بدر ونصر بالحجة فلهذا المعنى لو قدرنا أنه هزم قوم من المؤمنين لجاز أن يقال هم المنصورون لأنهم هم المنصورون بالحجة وبالعاقبة الحميدة والمقصود من الآية أن النصر والظفر إنما يحصلان بتأييد الله ونصره لا بكثرة العدد والشوكة والسلاح
ثم قال إِنَّ فِى ذالِكَ لَعِبْرَة ً والعبرة الاعتبار وهي الآية التي يعبر بها من منزلة الجهل إلى العلم وأصله


الصفحة التالية
Icon