البحث الثاني قال المتكلمون دلّت هذه الآية على أن الحب غير الشهوة لأنه أضاف الحب إلى الشهوة والمضاف غير المضاف إليه والشهوة من فعل الله تعالى والمحبة من أفعال العباد وهي عبارة عن أن يجعل الإنسان كل غرضه وعيشه في طلب اللذات والطيبات
البحث الثالث قال الحكماء الإنسان قد يحب شيئاً ولكنه يحب أن لا يحبه مثل المسلم فإنه قد يميل طبعه إلى بعض المحرمات لكنه يحب أن لا يحب وأما من أحب شيئاً وأحب إن يحبه فذاك هو كمال المحبة فإن كان ذلك في جانب الخير فهو كمال السعادة كما في قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ ( ص ٣٢ ) ومعناه أحب الخير وأحب أن أكون محباً للخير وإن كان ذلك في جانب الشر فهو كما قال في هذه الآية فإن قوله زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ يدل على أمور ثلاثة مرتبة أولها أنه يشتهي أنواع المشتهيات وثانيها أنه يحب شهوته لها وثالثها أنه يعتقد أن تلك المحبة حسنة وفضيلة ولما اجتمعت في هذه القضية الدرجات الثلاثة بلغت الغاية القصوى في الشدة والقوة ولا يكاد ينحل إلا بتوفيق عظيم من الله تعالى ثم إنه تعالى أضاف ذلك إلى الناس وهو لفظ عام دخله حرف التعريف فيفيد الاستغراق فظاهر اللفظ يقتضي أن هذا المعنى حاصل لجميع الناس والعقل أيضاً يدل عليه وهو أن كل ما كان لذيذاً ونافعاً فهو محبوب ومطلوب لذاته واللذيذ النافع قسمان جسماني وروحاني والقسم الجسماني حاصل لكل أحد في أول الأمر وأما القسم الروحاني فلا يكون إلا في الإنسان الواحد على سبيل الندرة ثم ذلك الإنسان إنما يحصل له تلك اللذة الروحانية بعد استئناس النفس باللذات الجسمانية فيكون انجذاب النفس إلى اللذات الجسمانية كالملكة المستقرة المتأكدة وانجذابها إلى اللذات الروحانية كالحالة الطارئة التي تزول بأدنى سبب فلا جرم كان الغالب على الخلق إنما هو الميل الشديد إلى اللذات الجسمانية وأما الميل إلى طلب اللذات الروحانية فذاك لا يحصل إلا للشخص النادر ثم حصوله لذلك النادر لا يتفق إلا في أوقات نادرة فلهذا السبب عم الله هذا الحكم فقال زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ
وأما قوله تعالى مِنَ النّسَاء وَالْبَنِينَ ففيه بحثان
البحث الأول مِنْ في قوله مِنَ النّسَاء وَالْبَنِينَ كما في قوله فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ ( الحج ٣٠ ) فكما أن المعنى فاجتنبوا الأوثان التي هي رجس فكذا أيضاً معنى هذه الآية زين للناس حب النساء وكذا وكذا التي هي مشتهاة
البحث الثاني إعلم أنه تعالى عدد ههنا من المشتهيات أموراً سبعة أولها النساء وإنما قدمهن على الكل لأن الالتذاذ بهن أكثر والاستئناس بهن أتم ولذلك قال تعالى خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّة ً وَرَحْمَة ً ( الروم ٢١ ) ومما يؤكد ذلك أن العشق الشديد المفلق المهلك لا يتفق إلا في هذا النوع من الشهوة
المرتبة الثانية حب الولد ولما كان حب الولد الذكر أكثر من حب الأنثى لا جرم خصه الله تعالى بالذكر ووجه التمتع بهم ظاهر من حيث السرور والتكثر بهم إلى غير ذلك


الصفحة التالية
Icon