من أغرقنا (١) ".
وأنبأ جل وعز عن أمر السفينة وإجرائها وإهلاك الكفرة، واستقرار السفينة واستوائها، وتوجيه أوامر التسخير إلى الأرض والسماء بقوله عزوجل " وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها " الى قوله: " وقيل بعدا للقوم الظالمين " إلى غير ذلك.
فلما عجزت قريش عن الأتيان بمثله وقالت: إن النبي ﷺ تقوله، أنزل الله عتالى: " أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون.
فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين (٢) ".
ثم أنزل تعجيزا أبلغ من ذلك فقال: " أم يقولون افتراه قل فاتوا لعشر سور مثله مفتريات (٣) ".
فلما عجزوا حطهم عن هذا المقدار، إلى مثل سورة من السور القصار، فقال جل ذكره: " وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله (٤) ".
فأفحموا عن الجواب، وتقطعت بهم الأسباب، وعدلوا ألى الحروب والعناد، وآثروا سبي الحريم والاولاد، ولو قدروا على المعارضة لكان أهون كثيرا، وأبلغ في الحجة وأشد تأثيرا.
هذا مع كونهم أرباب البلاغة واللحن (٥)، وعنهم تؤخذ الفصاحة واللسن (٦).
فبلاغة القرآن في آعلى طبقات الإحسان، وأرفع درجات الإياز والبيان، بل تجاوزت حد
الإحسان والإجادة إلى حيز الإرباء والزيادة.
هذا رسول الله ﷺ مع ما أوتي من جوامع الكلم، واختص به من غرائب الحكم، إذا تأملت قوله ﷺ في صفة الجنان، وإن كان في نهاية الإحسان، وجدته منحطا عن رتبة القرآن، وذلك في قوله عليه السلام: " فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولاخطر على قلب بشر فأين ذلك من قوله عزوجل " وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ".
وقوله " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ".
هذا أعدل وزنا، وأحسن تركيبا، وأعذب لفظا، وأقل حروفا، على أنه لا يعتبر إلا في مقدار سورة أو إطول آية، لأن الكلام كلما طال اتسع فيه مجال المتصرف، وضاق المقال على القاصر المتكلف، وبهذا قامت الحجة على العرب، إذ كانوا أرباب الفصاحة، ومظنة المعارضة، كما قامت الحجة في معجزة عيسى عليه السلام على الأطباء، ومعجزة موسى
(٢) آية ٣٣، ٣٤ سوره الطور.
(٣) آية ١٣ سورة هود.
(٤) آية ٢٣ سورة البقرة.
(٥) اللحن (بالتحريك): الفطنة واللغة.
(٦) اللسن (بالتحريك) الفصاحة.
(*)