فالإفساد في الأرض –من وجهة نظرهم-(هو الدعوة إلى ربوبية الله وحده، حيث يترتب عليها تلقائيا بطلان شرعية حكم فرعون ونظامه كله. إذ إنّ هذا النظام قائم على أساس حاكمية فرعون لأمره –أو بتعبير مرادف على أساس ربوبية فرعون لقومه- وإذن فهو- بزعمهم-الإفساد في الأرض، بقلب نظام الحكم، وتغيير الأوضاع القائمة على ربوبية البشر للبشر، وإنشاء وضع آخر مخالف تماما لهذه الأوضاع، الربوبية فيه لله لا للبشر. ومن ثمّ قرنوا الإفساد في الأرض بترك موسى وقومه لفرعون ولآلهته التي يعبدها هو وقومه)(١)؛ذلك لأنّ تلك الآلهة هي الغطاء التي يعيش تحته الملأ، ومنه يستمدون قدسيتهم وهيبتهم ومراكزهم.. وإلاّ فهم يدركون أكثر من غيرهم أنّها لا تضر ولا تنفع، ولكنّها الوسيلة الموصلة إلى أهدافهم وغاياتهم، بينما هم يعبدون في الحقيقة مصالحهم ومكتسباتهم، وتلك هي الجاهلية في أخس مظاهرها حيث أصبح الرب شعارا عندهم، ووسيلة للتغطية على معبودهم المرفوض أمام الجماهير، وتلك هي العلة الكامنة وراء الفرق الشاسع بين شعارات الحكومة وواقع الحياة المُعاش.
إنّ اللجوء إلى قلب الحقائق سياسة مُتَّبعة عند كلّ الطواغيت ومعاونيهم وبطاناتهم، مع إدراكهم لفساد مناهجهم وتصوّراتهم إلاّ أنّهم يزوّرون الحقائق اتباعا للهوى، يقول تعالى:’’أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا‘‘(٢). فلا عجب من إضمارهم الكذب وإصرارهم عليه؛ذلك بأنّهم اتخذوا الهوى إلها، فانفلتوا من كل القيم والأخلاق.
لقد أقر الملأُ فرعونَ بالقول والعمل واتبعوا أمره، ولهم أسبابهم كما هي أسباب المؤيدين للطواغيت، ثمّ تقدموا في شرهم وإثمهم فشاركوه وساندوه، وبقيت حلقة أخرى غفلت قلوبهم عنها، تلك اللحظة التي يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا، يقول تعالى:’’ثمّ يوم القيامة يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا ومأواكم النّار وما لكم من ناصرين‘‘(٣).

(١) في ظلال القرآن(٣/٣١٠-٣١١).
(٢) الفرقان: ٤٣].
(٣) العنكبوت: ٢٥].


الصفحة التالية
Icon