ومن الشواهد الدّالة على هذا الضلال قَسَمُ السحرة بعزة فرعون، أي(بقوة فرعون وشدة سلطانه ومنعة مملكته)(١). يقول تعالى حكاية لقولهم:’’وقالوا بعزة فرعون إنّا لنحن الغالبون‘‘(٢). فهذا يدلّ على أنّ فرعون قد عظم في نفوسهم حتى وصل الأمر بهم أن يقسموا بعزته!ولو كان عندهم أدنى رويّة لما تفوهوا بمثل تلك العبارة، وهم الذين يمثلون طبقة رجال الدّين، وهي الطبقة التي يعتبرها النّاس قدوتهم ومثالهم الذي يحتذى به. فكيف سيكون الحال فيما دونهم من الطبقات التي لا تتقن غير التقليد الأعمى؟!
إنّ المشهد المأساويّ ظاهر في ترديد مقولة فرعون دون تفكير أو نظر حين’’قال للملأ حوله إنّ هذا لساحر عليم، يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون‘‘(٣). فردّد الصمّ العمي مقالته وكأنّها أمّ الحقائق!فالملأ يرددون قولته:’’قال الملأ من قوم فرعون إنّ هذا لساحر عليم، يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون‘‘(٤). والسحرة يتبنون موقفه،’’إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى‘‘(٥)، فماذا عسى أن يكون موقف الجماهير؟!فهم على دين الحكومة سائرين.
ليس هناك سوى صوت واحد تردده الجماهير ولا تعي معانيه وأهدافه، إنّه صوت فرعون ومن تكلم بلسانه، ومع مرور الزمن تعطلت عقولهم وتخدرت، حتى صاروا أبواقا تردد مقولة النّظام الحاكم بلا وعي أو بصيرة، لا يسمعون إلاّ دعاء ونداءا، حتى صح القول أنّهم ميّتون ليس فيهم حياة، لأنّ المجتمع الحيّ هو الذي يقوّم الأخطاء ويصحح العوج ويحاسب الحكومة، ولا يكون هذا إلاّ إذا كان مجتمعا يستمدّ قيمه من الله سبحانه وتعالى.
ثانيا: استمراء الذل

(١) تفسير الطبري(١٩/٧٢).
(٢) الشعراء: ٤٤].
(٣) الشعراء: ٣٤-٣٥].
(٤) الأعراف: ١٠٩-١١٠].
(٥) طه: ٦٣].


الصفحة التالية
Icon