بَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ﴾ قِيلَ : إنَّ التَّقَلُّبَ هُوَ التَّحَوُّلُ، وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا كَانَ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ فِي السَّمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ وَعَدَ بِالتَّحْوِيلِ إلَى الْكَعْبَةِ، فَكَانَ مُنْتَظِرًا لِنُزُولِ الْوَحْيِ بِهِ وَكَانَ يَسْأَلُ اللَّهَ ذَلِكَ، فَأَذِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَا يَسْأَلُونَ اللَّهَ إلَّا بَعْدَ الْإِذْنِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَأْمَنُونَ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ صَلَاحٌ وَلَا يُجِيبُهُمْ اللَّهُ فَيَكُونَ فِتْنَةً عَلَى قَوْمِهِ.
فَهَذَا هُوَ مَعْنَى تَقَلُّبِ وَجْهِهِ فِي السَّمَاءِ وَقَدْ قِيلَ فِيهِ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يُحَوِّلَهُ اللَّه تَعَالَى إلَى الْكَعْبَةِ مُخَالَفَةً لِلْيَهُودِ وَتَمَيُّزًا مِنْهُمْ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ :" أَحَبَّ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا قِبْلَةُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ".
وَقِيلَ : إنَّهُ أَحَبَّ ذَلِكَ اسْتِدْعَاءً لِلْعَرَبِ إلَى الْإِيمَانِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ :﴿ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ﴾ وَقَوْلُهُ :﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ فَإِنَّ أَهْلُ اللُّغَةِ قَدْ قَالُوا : إنَّ الشَّطْرَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يَقَعُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : النِّصْفُ، يُقَالُ : شَطَرْتُ الشَّيْءَ أَيْ جَعَلْته نِصْفَيْنِ، وَيَقُولُونَ فِي مَثَلٍ لَهُمْ :" احْلِبْ حَلْبًا لَك شَطْرُهُ " أَيْ نِصْفُهُ.
وَالثَّانِي : نَحْوُهُ وَتِلْقَاؤُهُ.
وَلَا خِلَافَ أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ هُوَ الْمَعْنَى الثَّانِي، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ ؛ إذْ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ أَحَدٍ أَنَّ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ لَوْ صَلَّى إلَى جَانِبٍ مِنْهُ أَجْزَأَهُ.
وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَتَى نَاحِيَةً