وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْوَصِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ كَانَتْ وَاجِبَةً أَمْ لَا ؟ فَقَالَ قَائِلُونَ :" إنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً، وَإِنَّمَا كَانَتْ نَدْبًا وَإِرْشَادًا ".
وَقَالَ آخَرُونَ :" قَدْ كَانَتْ فَرْضًا ثُمَّ نُسِخَتْ " عَلَى الِاخْتِلَافِ مِنْهُمْ فِي الْمَنْسُوخِ مِنْهَا، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ :" إنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً " بِأَنَّ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ وَفَحْوَاهَا دَلَالَةٌ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ :﴿ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ فَلَمَّا قِيلَ فِيهَا " بِالْمَعْرُوفِ " وَإِنَّهَا عَلَى الْمُتَّقِينَ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : قَوْلُهُ :" بِالْمَعْرُوفِ " لَا يَقْتَضِي الْإِيجَابَ، وَالْآخَرُ : قَوْلُهُ " عَلَى الْمُتَّقِينَ " وَلَيْسَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُتَّقِينَ، الثَّالِثُ : تَخْصِيصُهُ لِلْمُتَّقِينَ بِهَا وَالْوَاجِبَاتُ لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا الْمُتَّقُونَ، وَغَيْرُهُمْ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَلَا دَلَالَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِهَا ؛ لِأَنَّ إيجَابَهَا بِالْمَعْرُوفِ لَا يَنْفِي وُجُوبَهَا ؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مَعْنَاهُ الْعَدْلُ الَّذِي لَا شَطَطَ فِيهِ وَلَا تَقْصِيرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ هَذَا الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ وقَوْله تَعَالَى :﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ بَلْ الْمَعْرُوفُ هُوَ الْوَاجِبُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ ﴾ وَقَالَ :﴿ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ فَذِكْرُ الْمَعْرُوفِ فِيمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْوَصِيَّةِ لَا يَنْفِي وُجُوبَهَا بَلْ هُوَ يُؤَكِّدُ وُجُوبَهَا ؛ إذْ كَانَ جَمِيعُ أَوَامِرِ اللَّهِ مَعْرُوفًا غَيْرَ مُنْكَرٍ.
وَمَعْلُومٌ أَيْضًا أَنَّ ضِدَّ الْمَعْرُوفِ هُوَ الْمُنْكَرُ، وَأَنَّ مَا لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ هُوَ مُنْكَرٌ، وَالْمُنْكَرُ مَذْمُومٌ مَزْجُورٌ عَنْهُ، فَإِذًا الْمَعْرُوفُ وَاجِبٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ :" حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ "


الصفحة التالية
Icon