وَقَدْ حَوَى قَوْله تَعَالَى :﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ أَحْكَامًا أُخَرَ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا ؛ مِنْهَا : دَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّ مَنْ اسْتَبَانَ لَهُ بَعْدَمَا أَصْبَحَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْتَدِئَ صَوْمَهُ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ لَمْ تُفَرِّقَ بَيْنَ مَنْ عَلِمَهُ مِنْ اللَّيْلِ أَوْ فِي بَعْضِ النَّهَارِ، وَهِيَ عَامَّةٌ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا، فَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازُ تَرْكِ نِيَّةِ صَوْمِ رَمَضَانَ مِنْ اللَّيْلِ ؛ وَكَذَلِكَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْمَجْنُونُ إذَا أَفَاقَا فِي بَعْضِ النَّهَارِ وَلَمْ يَتَقَدَّمَ لَهُمَا نِيَّةُ الصَّوْمِ مِنْ اللَّيْلِ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِمَا أَنْ يَبْتَدِئَا الصِّيَامَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ شَهِدَا الشَّهْرَ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ شُهُودَ الشَّهْرِ شَرْطًا لِلُزُومِ الصَّوْمِ.
وَفِي الْآيَةِ حُكْمٌ آخَرُ : تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ نَوَى بِصِيَامِهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تَطَوُّعًا أَوْ عَنْ فَرْضٍ آخَرَ أَنَّهُ مُجْزِئٌ عَنْ رَمَضَانَ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِفِعْلِ الصَّوْمِ فِيهِ وَرَدَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِوَصْفٍ وَلَا مَخْصُوصٍ بِشَرْطِ نِيَّةِ الْفَرْضِ، فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ صَامَ فَقَدْ قَضَى عُهْدَةَ الْآيَةِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ.
وَفِيهَا حُكْمٌ آخَرُ : تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى لُزُومِ صَوْمِ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ لِمَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الْإِفْطَارُ مَعَ كَوْنِ الْيَوْمِ مَحْكُومًا عِنْدَ سَائِرِ النَّاسِ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ.
وَقَدْ رَوَى رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ عَنْ هِشَامٍ، وَأَشْعَثُ عَنْ الْحَسَنِ فِيمَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ : أَنَّهُ لَا يَصُومُ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فِي رَجُلٍ رَأَى هِلَالَ شَهْرِ رَمَضَانَ قَبْلَ النَّاسِ بِلَيْلَةٍ : لَا يَصُومُ قَبْلَ النَّاسِ وَلَا يُفْطِرُ قَبْلَهُمْ، أَخْشَى أَنْ يَكُونَ شُبِّهَ لَهُ.
فَأَمَّا الْحَسَنُ فَإِنَّهُ أَطْلَقَ الْجَوَابَ فِي أَنَّهُ لَا يَصُومُ، وَهَذَا يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ، وَإِنْ تَيَقَّنَ الرُّؤْيَةَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ