وَلَمَّا كَانَتْ أَجْرَامُ الْمُنَافِقِينَ أَعْظَمَ مِنْ أَجْرَامِ سَائِرِ الْكُفَّارِ الْمُبَادِينَ بِالْكُفْرِ ؛ لِأَنَّهُمْ جَمَعُوا الِاسْتِهْزَاءَ وَالْمُخَادَعَةَ بِقَوْلِهِ :﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ ﴾ وَقَوْلِهِمْ ﴿ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ وَذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ، وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ، وَمَعَ مَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ مِنْ عِقَابِهِمْ وَمَا يَسْتَحِقُّونَهُ فِي الْآخِرَةِ، خَالَفَ بَيْنَ أَحْكَامِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَأَحْكَامِ سَائِرِ الْمُظْهِرِينَ لِلشِّرْكِ فِي رَفْعِ الْقَتْلِ عَنْهُمْ بِإِظْهَارِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَجْرَاهُمْ مَجْرَى الْمُسْلِمِينَ فِي التَّوَارُثِ وَغَيْرِهِ.
ثَبَتَ أَنَّ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا لَيْسَتْ مَوْضُوعَةً عَلَى مَقَادِيرِ الْأَجْرَامِ، وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى مَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْ الْمَصَالِحِ فِيهَا وَعَلَى هَذَا أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى أَحْكَامَهُ فَأَوْجَبَ رَجْمَ الزَّانِي الْمُحْصَنِ وَلَمْ يُزِلْ عَنْهُ الرَّجْمَ بِالتَّوْبَةِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَاعِزٍ بَعْد رَجْمِهِ وَفِي الْغَامِدِيَّةِ بَعْد رَجْمِهَا :﴿ لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ ﴾.
وَالْكُفْرُ أَعْظَمُ مِنْ الزِّنَا، وَلَوْ كَفَرَ رَجُلٌ ثُمَّ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وَقَالَ تَعَالَى :﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ وَحَكَمَ فِي الْقَاذِفِ بِالزِّنَا بِجَلْدِ ثَمَانِينَ وَلَمْ يُوجِبْ عَلَى الْقَاذِفِ بِالْكُفْرِ الْحَدَّ، وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ الزِّنَا، وَأَوْجَبَ عَلَى شَارِبِ الْخَمْرِ الْحَدَّ، وَلَمْ يُوجِبْ عَلَى شَارِبِ الدَّمِ وَآكِلِ الْمَيْتَةِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا غَيْرُ مَوْضُوعَةِ عَلَى مَقَادِيرِ الْأَجْرَامِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ جَائِزًا فِي الْعَقْلِ أَنْ لَا يُوجِبَ فِي الزِّنَا وَالْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ حَدًّا رَأْسًا وَيَكِلَ أَمْرَهُمْ إلَى عُقُوبَاتِ الْآخِرَةِ، جَازَ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَهَا فَيُوجِبَ فِي بَعْضِهَا أَغْلَظَ مِمَّا يُوجِبُ فِي بَعْضٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا : لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ