وقَوْله تَعَالَى :﴿ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ﴾ إلَى قَوْلِهِ :﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاَللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ﴾ إلَى آخَرِ الْآيَةِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ قِصَّةِ الْمَقْتُولِ وَذَبْحِ الْبَقَرَةِ ضُرُوبٌ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالدَّلَائِلِ عَلَى الْمَعَانِي الشَّرِيفَةِ : فَأَوَّلُهَا : أَنَّ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا ﴾ وَإِنْ كَانَ مُؤَخَّرًا فِي التِّلَاوَةِ فَهُوَ مُقَدَّمٌ فِي الْمَعْنَى عَلَى جَمِيعِ مَا ابْتَدَأَ بِهِ مِنْ شَأْنِ الْبَقَرَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ إنَّمَا كَانَ سَبَبُهُ قَتْلُ النَّفْسِ وَقَدْ قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذِكْرَ الْقَتْلِ وَإِنْ كَانَ مُؤَخَّرًا فِي التِّلَاوَةِ فَهُوَ مُقَدَّمٌ فِي النُّزُولِ، وَالْآخَرُ : أَنَّ تَرْتِيبَ نُزُولِهَا عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِ تِلَاوَتِهَا وَنِظَامِهَا وَإِنْ كَانَ مُقَدَّمًا فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ :" اُذْكُرْ ؛ إذْ أَعْطَيْت أَلْفَ دِرْهَمِ زَيْدًا ؛ إذْ بَنَى دَارِي " وَالْبِنَاءُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَطِيَّةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْبَقَرَةِ مُقَدَّمٌ فِي النُّزُولِ قَوْله تَعَالَى :﴿ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ﴾.
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَقَرَةَ قَدْ ذُكِرَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ أُضْمِرَتْ وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ ذِكْرِ الطُّوفَانِ وَانْقِضَائِهِ :﴿ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إلَّا قَلِيلٌ ﴾.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ هَلَاكِهِمْ ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْكَلَامِ وَتَأْخِيرَهُ إذَا كَانَ بَعْضُهُ مَعْطُوفًا عَلَى بَعْضِ بِالْوَاوِ غَيْرُ مُوجِبٍ تَرْتِيبَ الْمَعْنَى عَلَى تَرْتِيبِ اللَّفْظِ.