أَيْدِيهِمْ } وَفِيهِ دَلَالَةٌ أُخْرَى عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، وَهُوَ إخْبَارُهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَتَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مَعَ خِفَّةِ التَّمَنِّي وَسُهُولَتِهِ عَلَى الْمُتَلَفِّظِ وَسَلَامَةِ أَلْسِنَتِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ لَوْ قَالَ لَهُمْ : الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِي أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَا يَمَسُّ رَأْسَهُ مَعَ صِحَّةِ جَوَارِحِهِ، وَأَنَّهُ إنْ مَسَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ رَأْسَهُ فَأَنَا مُبْطِلٌ فَلَا يَمَسُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ رَأْسَهُ مَعَ شِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ لَهُ وَحِرْصِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ وَمَعَ سَلَامَةِ أَعْضَائِهِمْ وَصِحَّةِ جَوَارِحِهِمْ ؛ فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ عَاقِلًا لَا يَتَحَدَّى أَعْدَاءَهُ بِمِثْلِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِجَوَازِ وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَالثَّانِي : أَنَّهُ إخْبَارٌ بِالْغَيْبِ ؛ إذْ لَمْ يَتَمَنَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ الْمَوْتَ، وَكَوْنُ مُخْبِرِهِ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ.
وَهَذَا كَقَوْلِهِ حِين تَحَدَّاهُمْ بِالْقُرْآنِ وَقَرَّعَهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَإِخْبَارِهِ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ بِقَوْلِهِ :﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ﴾ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّهُمْ لَمْ يَتَمَنَّوْا لِأَنَّهُمْ لَوْ تَمَنَّوْا لَكَانَ ذَلِكَ ضَمِيرًا مُغَيَّبًا عِلْمُهُ عَنْ النَّاسِ وَكَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ : إنَّكُمْ قَدْ تَمَنَّيْتُمْ بِقُلُوبِكُمْ ؟ قِيلَ لَهُ : هَذَا يَبْطُلُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لِلتَّمَنِّي صِيغَةٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ وَهُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ : لَيْتَ اللَّهَ غَفَرَ لِي، وَلَيْتَ زَيْدًا قَدِمَ ؛ وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى، وَهُوَ أَحَدُ أَقْسَامِ الْكَلَامِ وَمَتَى قَالَ ذَلِكَ قَائِلٌ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مُتَمَنِّيًا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ لِضَمِيرِهِ وَاعْتِقَادِهِ، كَقَوْلِهِمْ فِي الْخَبَرِ وَالِاسْتِخْبَارِ وَالنِّدَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ وَالتَّحَدِّي بِتَمَنِّي الْمَوْتَ إنَّمَا تَوَجَّهَ إلَى الْعِبَارَةِ الَّتِي فِي لُغَتِهِمْ أَنَّهَا تَمَنٍّ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَحَدَّاهُمْ عِنْدَ


الصفحة التالية
Icon