وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُدَّةِ الِاعْتِكَافِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ :" لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا وَمَا شَاءَ " وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَصْحَابِنَا فِي مَنْ دَخَلَ فِي الِاعْتِكَافِ مِنْ غَيْرِ إيجَابٍ، بِالْقَوْلِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ :" هُوَ مُعْتَكِفٌ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ وَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ مَتَى شَاءَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ صَائِمًا فِي مِقْدَارِ لَبْثِهِ فِيهِ " وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، وَهِيَ فِي غَيْرِ الْأُصُولِ " أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّهُ يَوْمًا ".
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ :" مَا سَمِعْتُ أَنَّ أَحَدًا اعْتَكَفَ دُونَ عَشْرٍ، وَمَنْ صَنَعَ ذَلِكَ لَمْ أَرَ عَلَيْهِ شَيْئًا " وَذَكَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ :" الِاعْتِكَافُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ " ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ :" لَا اعْتِكَافَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ " وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ :" لَا أَسْتَحِبُّ أَنْ يَعْتَكِفَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامِ " قَالَ أَبُو بَكْرِ : تَحْدِيدُ مُدَّةِ الِاعْتِكَافِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَوْقِيفٍ أَوْ اتِّفَاقٍ وَهُمَا مَعْدُومَانِ، فَالْمُوجِبُ لِتَحْدِيدِهِ مُتَحَكِّمٌ قَائِلٌ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ.
فَإِنْ قِيلَ : تَحْدِيدُ الْعَشَرَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ ﴿ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ ﴾، وَرُوِيَ أَنَّهُ ﴿ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ شَوَّالٍ فِي بَعْضِ السِّنِينَ ﴾، وَلَمْ يُرْوَ أَنَّهُ اعْتَكَفَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، قِيلَ لَهُ : لَمْ يَخْتَلِفْ الْفُقَهَاءُ أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلِاعْتِكَافِ لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُوجِبِ عَلَى أَحَدٍ اعْتِكَافًا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ لِلِاعْتِكَافِ عَلَى الْوُجُوبِ فَتَحْدِيدُ الْعَشَرَةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَثْبُتَ بِفِعْلِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْفَ عَنْ غَيْرِهِ، فَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّ اعْتِكَافَ الْعَشَرَةِ جَائِزٌ وَنَفْيُ مَا دُونَهَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ، وَقَدْ أَطْلَقَ اللَّهُ تَعَالَى


الصفحة التالية
Icon