وَجْهَيْنِ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ غَيْرُ مُرَادٍ بِذِكْرِ الْإِحْصَارِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا اسْتَأْنَفَ لَهُ ذِكْرًا مَعَ كَوْنِهِ فِي أَوَّلِ الْخِطَابِ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادًا لَهُ لَكَانَ يَحِلُّ بِذَلِكَ الدَّمِ وَلَمْ يَكُنْ يَحْتَاجَ إلَى فِدْيَةٍ.
قِيلَ لَهُ : لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ﴾ مَنَعَهُ الْإِحْلَالَ مَعَ وُجُودِ الْإِحْصَارِ إلَى وَقْتِ بُلُوغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ وَهُوَ ذَبْحُهُ فِي الْحَرَمِ، فَأَبَانَ عَنْ حُكْمِ الْمَرِيضِ قَبْلَ بُلُوغِ الْهَدْيِ مَحَّلَهُ، وَأَبَاحَ لَهُ حَلْقَ الرَّأْسِ مَعَ إيجَابِ الْفِدْيَةِ.
وَوَجْهٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَرَضٍ يَمْنَعُ الْوُصُولَ إلَى الْبَيْتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ ﴿ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ : أَتُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ﴾ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ، وَلَمْ تَكُنْ هَوَامُّ رَأْسِهِ مَانِعَتَهُ مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ، فَرَخَّصَ اللَّهُ لَهُ فِي الْحَلْقِ وَأَمَرَهُ بِالْفِدْيَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَرَضُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمَرَضَ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ إحْصَارٌ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا جَعَلَ الْمَرَضَ إحْصَارًا إذَا مَنَعَ الْوُصُولَ إلَى الْبَيْتِ، فَلَيْسَ فِي ذِكْرِهِ حُكْمَ الْمَرِيضِ بِمَا وَصَفَ مَا يَمْنَعُ كَوْنَ الْمَرَضِ إحْصَارًا.
وَوَجْهٌ آخَرُ : وَهُوَ قَوْلُهُ :﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا ﴾ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إلَى أَوَّلِ الْخِطَابِ، كَمَا عَادَ إلَيْهِ حُكْمُ الْإِحْصَارِ وَهُوَ قَوْلُهُ :﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ :﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ﴾ فَبَيَّنَ حُكْمَهُمْ إذَا أُحْصِرُوا، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ :﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا ﴾ يَعْنِي : أَيْ الْمُحْرِمُونَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ؛ فَبَيَّنَ حُكْمَهُمْ إذَا مَرِضُوا قَبْلَ الْإِحْصَارِ كَمَا بَيَّنَ حُكْمَهُمْ عِنْدَ الْإِحْصَارِ ؛ فَلَيْسَ إذًا فِي قَوْلِهِ :﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا ﴾ دَلَالَةٌ


الصفحة التالية
Icon