وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عُمُومُهُ فِي سَائِرِ الْهَدَايَا، وَالْآخَرُ : مَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ مَعْنَى الْمَحِلِّ الَّذِي أُجْمِلَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ :﴿ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ﴾ فَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ جَعَلَ الْمَحِلَّ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْعَلَ الْمَحِلَّ غَيْرَهُ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ :﴿ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ﴾ فَجَعَلَ بُلُوغَ الْكَعْبَةِ مِنْ صِفَاتِ الْهَدْيِ، فَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْهُ دُونَ وُجُودِهِ فِيهِ.
كَمَا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ فِي الظِّهَارِ وَفِي الْقَتْلِ :﴿ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ﴾ فَقَيَّدَهُمَا بِفِعْلِ التَّتَابُعِ، لَمْ يَجُزْ فِعْلُهُمَا إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ :﴿ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ﴾ لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ.
وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِي سَائِرِ الْهَدَايَا الَّتِي تُذْبَحُ : إنَّهَا لَا تَجُوزُ إلَّا فِي الْحَرَمِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ بَعْدَ ذِكْرِ الْإِحْصَارِ :﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ فَأَوْجَبَ عَلَى الْمُحْصَرِ دَمًا وَنَهَاهُ عَنْ الْحَلْقِ حَتَّى يَذْبَحُ هَدْيَهُ، فَلَوْ كَانَ ذَبْحُهُ فِي الْحِلِّ جَائِزًا لَذَبَحَ صَاحِبُ الْأَذَى هَدْيَهُ عَنْ الْإِحْصَارِ وَحَلَّ بِهِ وَاسْتَغْنَى عَنْ فِدْيَةِ الْأَذَى، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحِلَّ لَيْسَ بِمَحِلِّ الْهَدْيِ.
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا فِيمَنْ لَا يَجِدُ هَدْيَ الْإِحْصَارِ.
قِيلَ لَهُ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِطَابًا فِيمَنْ لَا يَجِدُ الدَّمَ ؛ لِأَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالنُّسُكِ، وَلَا يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ إلَّا وَهُوَ وَاجِدٌ لَهَا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ مَا يَجِدُ وَبَيْنَ مَا لَا يَجِدُ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَحِلَّ الْهَدْيِ هُوَ الْحَرَمُ دُونَ مَحِلِّ الْإِحْصَارِ.
وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ، لَمَّا اتَّفَقُوا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ أَنَّ مَحِلَّهُ الْحَرَمُ