بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِحْلَالِ تَوَقَّفُوا رَجَاءَ أَنْ يُمْكِنَهُمْ الْوُصُولُ وَأَعَادَ عَلَيْهِمْ الْقَوْلَ ؛ ثُمَّ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَأَ فَنَحَرَ هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَوْهُ كَذَلِكَ حَلَقَ بَعْضٌ وَقَصَّرَ بَعْضٌ، فَدَعَا لِلْمُحَلِّقِينَ لِمُبَالَغَتِهِمْ فِي مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُسَارِعَتِهِمْ إلَى أَمْرِهِ، وَلَمَّا قِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعَوْتَ لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً فَقَالَ :﴿ إنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا ﴾ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ مِنْ التَّقْصِيرِ، فَاسْتَحَقُّوا مِنْ الثَّوَابِ بِعِلْمِهِمْ لِذَلِكَ مَا لَمْ يَسْتَحِقَّهُ الْآخَرُونَ.
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَمَا جَرَى الْأَمْرُ فَقَدْ أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَلْقِ وَأَمْرُهُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَدُعَاؤُهُ لِلْفَرِيقَيْنِ مِنْ الْمُحَلِّقِينَ وَالْمُقَصِّرِينَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ نُسُكٌ، وَمَا ذَكَرْتُهُ مِنْ أَنَّ الْقَوْمَ كَرِهُوا الْحَلْقَ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِهِ، لَيْسَ بِنَافٍ وَجْهَ الدَّلَالَةِ مِنْهُ عَلَى كَوْنِهِ نُسُكًا.
فَإِنَّهُ يُقَالُ : قَدْ رَوَى الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ قِصَّةَ الْحُدَيْبِيَةِ فَقَالَا فِيهِ : فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :﴿ أَحِلُّوا وَانْحَرُوا ﴾ وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ الْحَلْقَ.
فَنَسْتَعْمِلُ اللَّفْظَيْنِ، فَنَقُولُ : مَا حَلَّ بِهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ حَلَالٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :﴿ أَحِلُّوا ﴾ وَقَوْلُهُ :﴿ احْلِقُوا ﴾ الْمَقْصِدُ بِهِ الْإِحْلَالُ لَا تَعْيِينُهُ بِالْحَلْقِ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا اسْتَحَقُّوا الثَّوَابَ لِإِحْلَالِهِمْ وَائْتِمَارِهِمْ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الْحَلْقُ أَفْضَلَ مِنْ التَّقْصِيرِ لِجَدِّهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ فِي مُتَابَعَةِ