وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْبَلْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ إلَّا الْإِسْلَامَ أَوْ السَّيْفَ.
وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ ثَابِتًا فِي الْحَالِ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْكُفْرِ ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ مُشْرِكٍ إلَّا وَهُوَ لَوْ تَهَوَّدَ أَوْ تَنَصَّرَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَقْرَرْنَاهُ عَلَى دِينِهِ بِالْجِزْيَةِ ؛ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا ثَابِتًا فِي سَائِرِ مَنْ انْتَحَلَ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ حِينَ قَالَ :( مَنْ تَهَوَّدَ مِنْ الْمَجُوسِ أَوْ النَّصَارَى أَجْبَرْته عَلَى الرُّجُوعِ إلَى دِينِهِ أَوْ إلَى الْإِسْلَامِ ) وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ ؛ لِأَنَّ فِيهَا الْأَمْرَ بِأَنْ لَا نُكْرِهُ أَحَدًا عَلَى الدِّينِ، وَذَلِكَ عُمُومٌ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَمُشْرِكُو الْعَرَبِ الَّذِينَ أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِهِمْ وَأَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامَ أَوْ السَّيْفَ قَدْ كَانُوا مُكْرَهِينَ عَلَى الدِّينِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي الدِّينِ مُكْرَهًا فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ، فَمَا وَجْهُ إكْرَاهِهِمْ عَلَيْهِ ؟ قِيلَ لَهُ : إنَّمَا أُكْرِهُوا عَلَى إظْهَارِ الْإِسْلَامِ لَا عَلَى اعْتِقَادِهِ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ لَا يَصِحُّ مِنَّا الْإِكْرَاهُ عَلَيْهِ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :﴿ أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ﴾ فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْقِتَالَ إنَّمَا كَانَ عَلَى إظْهَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الِاعْتِقَادَاتُ فَكَانَتْ مَوْكُولَةً إلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَلَمْ يَقْتَصِرْ بِهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقِتَالِ دُونَ أَنْ أَقَامَ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةَ وَالْبُرْهَانَ فِي صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، فَكَانَتْ