يَأْمُرُنَا بِشَيْءٍ ثُمَّ يُعَذِّبُنَا عَلَيْهِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَ مَذْهَبِ شُرَيْحٍ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ ﴾ مَقْصُورٌ عَلَى الرِّبَا دُونَ غَيْرِهِ، وَأَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الدُّيُونِ لَا يَخْتَلِفُ فِي الْحَبْسِ فِيهَا الْمُوسِرُ وَالْمُعْسِرُ.
وَيُشْتَبَهُ أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَنَا إلَى مَعْرِفَةِ الْإِعْسَارِ عَلَى الْحَقِيقَةِ ؛ إذْ جَائِزٌ أَنْ يُظْهِرَ الْإِعْسَارَ وَحَقِيقَةُ أَمْرِهِ الْيَسَارُ، فَاقْتَصَرَ الْإِنْظَارُ عَلَى رَأْسِ مَالِ الرِّبَا الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ وَحُمِلَ مَا عَدَاهُ عَلَى مُوجِبِ عَقْدِ الْمُدَايَنَةِ مِنْ لُزُومِ الْقَضَاءِ وَتَوَجَّهَ الْمُطَالَبَةُ عَلَيْهِ بِالْأَدَاءِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ بِمَا قَدْ دَلَلْنَا عَلَيْهِ مِنْ مُقْتَضَى عُمُومِ اللَّفْظِ لِسَائِرِ الدُّيُونِ.
وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ نَصُّ التَّنْزِيلِ وَارِدًا فِي الرِّبَا دُونَ غَيْرِهِ لَكَانَ سَائِرُ الدُّيُونِ بِمَنْزِلَتِهِ قِيَاسًا عَلَيْهِ ؛ إذْ لَا فَرْقَ فِي حَالِ الْيَسَارِ بَيْنَهُمَا فِي صِحَّةِ لُزُومِ الْمُطَالَبَةِ بِهِمَا وَوُجُوبِ أَدَائِهِمَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَا فِي حَالِ الْأَدَاءِ فِي سُقُوطِ الْحَبْسِ فِيهَا دُونَهُ.
فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى :﴿ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا ﴾ وَاحْتِجَاجُ شُرَيْحٍ بِهِ فِي حَبْسِ الْمَطْلُوبِ، فَإِنَّ الْآيَةَ إنَّمَا هِيَ فِي الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ فِي يَدِهِ لِغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ أَدَاؤُهُ، وَأَمَّا الدُّيُونُ الْمَضْمُونَةُ فِي ذِمَّتِهِ فَإِنَّمَا الْمُطَالَبَةُ بِهَا مُعَلَّقَةٌ بِإِمْكَانِ أَدَائِهَا، فَمَنْ كَانَ مُعْسِرًا فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفْهُ إلَّا مَا فِي إمْكَانِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ﴾ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا لِأَدَائِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْبَسَ بِهَا.
فَإِنْ قِيلَ : إنَّ الدَّيْنَ مِنْ الْأَمَانَاتِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى :{ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ