الْمَوْتُ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ مُرَاعًى مُعْتَبَرٌ بِالْمَوْتِ، فَإِذَا مَاتَ صَارَ تَصَرُّفُهُ وَاقِعًا فِي حَقِّ الْغَيْرِ الَّذِي هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِهِ وَهُمْ الْغُرَمَاءُ وَالْوَرَثَةُ، فَأَمَّا تَصَرُّفُهُ فِي الْحَالِ فَهُوَ جَائِزٌ مَا لَمْ يَطْرَأْ الْمَوْتُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّا لَا نَفْسَخُ هِبَتَهُ وَلَا نُوجِبُ السِّعَايَةَ عَلَى مَنْ أَعْتَقَهُ مِنْ عَبِيدِهِ حَتَّى يَحْدُثَ الْمَوْتُ ؟ فَإِقْرَارُهُ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ وَالْمَالِ غَيْرُ مُتَفَرِّقَيْنِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ.
وَمِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ مُثْبِتُو الْحَجْرِ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ﴾ وقَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ ﴾ الْآيَةَ.
فَإِذَا كَانَ التَّبْذِيرُ مَذْمُومًا مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ الْمَنْعُ مِنْهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ وَيَمْنَعَهُ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ ؛ وَكَذَلِكَ نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ يَقْتَضِي مَنْعَهُ عَنْ إضَاعَتِهِ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ.
وَهَذَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْحَجْرِ لِأَنَّا نَقُولُ : إنَّ التَّبْذِيرَ مَحْظُورٌ وَيُنْهَى فَاعِلُهُ عَنْهُ، وَلَيْسَ فِي النَّهْيِ عَنْ التَّبْذِيرِ مَا يُوجِبُ الْحَجْرَ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَهُ التَّبْذِيرُ فَأَمَّا أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ وَيُبْطِلَ بِيَاعَاتِهِ وَإِقْرَارِهِ وَسَائِرِ وُجُوهِ تَصَرُّفِهِ فَإِنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ هُوَ الَّذِي فِيهِ الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خُصُومِنَا، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يُوجِبُ الْمَنْعَ مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ نَفْسَهُ لَيْسَ مِنْ التَّبْذِيرِ فِي شَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُبَذِّرًا لَوَجَبَ مَنْعُ سَائِرِ الْمُقِرِّينَ مِنْ إقْرَارِهِمْ.
وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ بِالْمُحَابَاةِ لَا تَبْذِيرَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُبَذِّرًا لَوَجَبَ أَنْ يَنْهَى عَنْهُ سَائِرَ النَّاسِ ؛ وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاَلَّذِي تَقْتَضِيهِ الْآيَةُ النَّهْيُ عَنْ التَّبْذِيرِ وَذَمُّ فَاعِلِهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِهَا عَلَى