وقَوْله تَعَالَى :﴿ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ ﴾ فِيهِ بَيَانٌ أَنَّ الْغَرَضَ الَّذِي أَجْرَى بِالْأَمْرِ بِالْكِتَابِ وَاسْتِشْهَادِ الشُّهُودِ هِيَ الْوَثِيقَةُ وَالِاحْتِيَاطُ لِلْمُتَدَايِنَيْنِ عِنْدَ التَّجَاحُدِ وَرَفْعِ الْخِلَافِ.
وَبَيَّنَ الْمَعْنَى الْمُرَادَ بِالْكِتَابَةِ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَعْدَلُ وَأَوْلَى أَنْ لَا يَقَعَ فِيهِ بَيْنَهُمْ التَّظَالُمُ، وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ أَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ ؛ يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : أَنَّهُ أَثْبَتُ لَهَا وَأَوْضَحُ مِنْهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مَكْتُوبَةً، وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى نَفْيِ الرِّيبَةِ وَالشَّكِّ فِيهَا.
فَأَبَانَ لَنَا جَلَّ وَعَلَا أَنَّهُ أَمَرَ بِالْكِتَابِ وَالْإِشْهَادِ احْتِيَاطًا لَنَا فِي دِينِنَا وَدُنْيَانَا وَدَفْعِ التَّظَالُمِ فِيمَا بَيْنَنَا، وَأَخْبَرَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ فِي الْكِتَابِ مِنْ الِاحْتِيَاطِ لِلشَّهَادَةِ مَا نَفَى عَنْهَا الرَّيْبَ وَالشَّكَّ، وَأَنَّهُ أَعْدَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ لَا يَكُونَ مَكْتُوبًا فَيَرْتَابُ الشَّاهِدُ فَلَا يَنْفَكُّ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يُقِيمَهَا عَلَى مَا فِيهَا مِنْ الِارْتِيَابِ وَالشَّكِّ، فَيُقْدِمَ عَلَى مَحْظُورٍ أَوْ يَتْرُكَهَا فَلَا يُقِيمَهَا فَيُضَيِّعَ حَقَّ الطَّالِبِ.
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا مَعَ زَوَالِ الرَّيْبِ وَالشَّكِّ فِيهَا، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ إقَامَتُهَا إذَا لَمْ يَذْكُرْهَا وَإِنْ عُرِفَ خَطُّهُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ الْكِتَابَ مَأْمُورٌ بِهِ لِئَلَّا يَرْتَابَ بِالشَّهَادَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ لَهُ إقَامَتُهَا مَعَ الشَّكِّ فِيهَا، فَإِذَا كَانَ الشَّكُّ فِيهَا يَمْنَعُ صِحَّتَهَا فَعَدَمُ الذِّكْرِ وَالْعِلْمِ بِهَا أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ صِحَّتَهَا.