قَوْله تَعَالَى :﴿ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ﴾ يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : الْبِيَاعَاتِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ تَسْلِيمَ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ بِلَا تَأْجِيلٍ ؛ فَأَبَاحَ تَرْكَ الْكِتَابِ فِيهَا، وَذَلِكَ تَوْسِعَةٌ مِنْهُ جَلَّ وَعَزَّ لِعِبَادِهِ وَرَحْمَةٌ لَهُمْ لِئَلَّا يَضِيقَ عَلَيْهِمْ أَمْرُ تَبَايُعِهِمْ فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْأَقْوَاتِ الَّتِي حَاجَتُهُمْ إلَيْهَا مَاسَّةٌ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي نَسَقِ هَذَا الْكَلَامِ :﴿ وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ ﴾ وَعُمُومُهُ يَقْتَضِي الْإِشْهَادَ عَلَى سَائِرَ عُقُودِ الْبِيَاعَاتِ بِالْأَثْمَانِ الْعَاجِلَةِ.
وَإِنَّمَا خَصَّ التِّجَارَاتِ الْحَاضِرَةِ غَيْرِ الْمُؤَجَّلَةِ بِإِبَاحَةِ تَرْكِ الْكِتَابِ فِيهَا، فَأَمَّا الْإِشْهَادُ فَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِي جَمِيعِهَا إلَّا النَّزْرَ الْيَسِيرَ الَّذِي لَيْسَ فِي الْعَادَةِ التَّوَثُّقُ فِيهَا بِالْإِشْهَادِ، نَحْوَ شِرَى الْخُبْزِ وَالْبَقْلِ وَالْمَاءِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ رَأَوْا الْإِشْهَادَ فِي شِرَى الْبَقْلِ وَنَحْوِهِ، وَلَوْ كَانَ مَنْدُوبًا إلَيْهِ لَنُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ وَالْمُتَقَدِّمِينَ، وَلَنَقَلَهُ الْكَافَّةُ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ.
وَفِي عِلْمنَا بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ الْأَقْوَاتِ وَمَا لَا يَسْتَغْنِي الْإِنْسَانُ عَنْ شِرَائِهِ مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ عَنْهُمْ الْإِشْهَادَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِشْهَادِ وَإِنْ كَانَ نَدْبًا وَإِرْشَادًا فَإِنَّمَا هُوَ فِي الْبِيَاعَاتِ الْمَعْقُودَةِ عَلَى مَا يُخْشَى فِيهِ التَّجَاحُدُ مِنْ الْأَثْمَانِ الْخَطِيرَةِ وَالْأَبْدَالِ النَّفِيسَةِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْحُقُوقِ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْ عَيْبٍ إنْ وَجَدَهُ وَرُجُوعُ مَا يَجِبُ لِمُبْتَاعِيهِ بِاسْتِحْقَاقِ مُسْتَحِقٍّ لِجَمِيعِهِ أَوْ بَعْضِهِ، وَكَانَ الْمَنْدُوبُ إلَيْهِ


الصفحة التالية
Icon