قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةِ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ :" لَمْ يُوضَعْ قَبْلَهُ بَيْتٌ عَلَى الْأَرْضِ ".
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمَا قَالَا :" هُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلْعِبَادَةِ ".
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي بَكَّةَ، فَقَالَ الزُّهْرِيُّ :" بَكَّةُ الْمَسْجِدُ وَمَكَّةُ الْحَرَمُ كُلُّهُ "، وَقَالَ مُجَاهِدٌ :" بَكَّةُ هِيَ مَكَّةُ ".
وَمَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ يَقُولُ : قَدْ تُبْدَلُ الْبَاءُ مِنْ الْمِيمِ، كَقَوْلِهِ سَبَدَ رَأْسَهُ وَسَمَدَهُ إذَا حَلَقَهُ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ :" بَكَّةُ هِيَ بَطْنُ مَكَّةَ ".
وَقِيلَ إنَّ الْبَكَّ الزَّحْمُ، مِنْ قَوْلِك : بَكَّهُ يَبُكُّهُ بَكًّا إذَا زَاحَمَهُ، وَتَبَاكَّ النَّاسُ بِالْمَوْضِعِ إذَا ازْدَحَمُوا ؛ فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِهَا الْبَيْتَ لِازْدِحَامِ النَّاسِ فِيهِ لِلتَّبَرُّكِ بِالصَّلَاةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِهِ مَا حَوَلَ الْبَيْتِ مِنْ الْمَسْجِدِ لِازْدِحَامِ النَّاسِ فِيهِ لَلطَّوَافِ.
قَوْله تَعَالَى :﴿ وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ﴾ يَعْنِي بَيَانًا وَدَلَالَةً عَلَى اللَّهِ لِمَا أَظْهَرَ فِيهِ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ، وَهُوَ أَمْنُ الْوَحْشِ فِيهِ حَتَّى يَجْتَمِعَ الْكَلْبُ وَالظَّبْيُ فِي الْحَرَمِ، فَلَا الْكَلْبُ يُهَيِّجُ الظَّبْيَ، وَلَا الظَّبْيُ يَتَوَحَّشُ مِنْهُ ؛ وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيْتِ هَهُنَا الْبَيْتُ وَمَا حَوْلَهُ مِنْ الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ الْحَرَمِ.
وَقَوْلُهُ :﴿ مُبَارَكًا ﴾ يَعْنِي أَنَّهُ ثَابِتُ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ ؛ لِأَنَّ الْبَرَكَةَ هِيَ ثُبُوتُ الْخَيْرِ وَنُمُوُّهُ وَتَزَيُّدُهُ، وَالْبَرْكُ هُوَ الثُّبُوتُ، يُقَالُ : بَرَكَ بَرْكًا وَبُرُوكًا إذَا ثَبَتَ عَلَى حَالِهِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَرْغِيبٌ فِي الْحَجِّ إلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ بِمَا أَخْبَرَ عَنْهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ وَالْبَرَكَةِ وَنُمُوِّ الْخَيْرِ وَزِيَادَتِهِ مَعَ اللُّطْفِ فِي الْهِدَايَةِ إلَى التَّوْحِيدِ