وقَوْله تَعَالَى :﴿ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾، فَإِنَّ الِاسْتِنْبَاطَ هُوَ الِاسْتِخْرَاجُ، وَمِنْهُ اسْتِنْبَاطُ الْمِيَاهِ وَالْعُيُونِ ؛ فَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا اُسْتُخْرِجَ حَتَّى تَقَعَ عَلَيْهِ رُؤْيَةُ الْعُيُونِ أَوْ مَعْرِفَةُ الْقُلُوبِ ؛ وَالِاسْتِنْبَاطُ فِي الشَّرْعِ نَظِيرُ الِاسْتِدْلَالِ وَالِاسْتِعْلَامِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِرَدِّ الْحَوَادِثِ إلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ إذَا كَانُوا بِحَضْرَتِهِ وَإِلَى الْعُلَمَاءِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَالْغَيْبَةِ عَنْ حَضْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَهَذَا لَا مَحَالَةَ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِنْبَاطِهِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ مَا هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَمِنْهَا مَا هُوَ مُودَعٌ فِي النَّصِّ قَدْ كَلَّفَنَا الْوُصُولَ إلَى عِلْمِهِ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ وَاسْتِنْبَاطِهِ فَقَدْ حَوَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَعَانِيَ : مِنْهَا أَنَّ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ مَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ بَلْ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا أَنَّ عَلَى الْعُلَمَاءِ اسْتِنْبَاطَهُ وَالتَّوَصُّلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ بِرَدِّهِ إلَى نَظَائِرِهِ مِنْ الْمَنْصُوصِ.
وَمِنْهَا أَنَّ الْعَامِّيَّ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ الْعُلَمَاءِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ.
وَمِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ مُكَلَّفًا بِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا بِدَلَائِلِهَا ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالرَّدِّ إلَى الرَّسُولِ، وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ، ثُمَّ قَالَ :﴿ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ وَلَمْ يَخُصَّ أُولِي الْأَمْرِ بِذَلِكَ دُونَ الرَّسُولِ ؛ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْجَمِيعِ الِاسْتِنْبَاطَ وَالتَّوَصُّلَ إلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ بِالِاسْتِدْلَالِ.
فَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ هَذَا اسْتِنْبَاطًا فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، إنَّمَا هُوَ فِي الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ مِنْ الْعَدُوِّ


الصفحة التالية
Icon