وقَوْله تَعَالَى :﴿ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاك اللَّهُ ﴾ رُبَّمَا احْتَجَّ بِهِ مَنْ يَقُولُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَقُولُ شَيْئًا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، وَإِنَّ أَقْوَالَهُ وَأَفْعَالَهُ كُلَّهَا كَانَتْ تَصْدُرُ عَنْ النُّصُوصِ، وَإِنَّهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾.
وَلَيْسَ فِي الْآيَتَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَقُولُ شَيْئًا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : إنَّ مَا صَدَرَ عَنْ اجْتِهَادٍ فَهُوَ مِمَّا أَرَاهُ اللَّهُ وَعَرَّفَهُ إيَّاهُ وَمِمَّا أَوْحَى بِهِ إلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَهُ، فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى نَفْيِ الِاجْتِهَادِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحْكَامِ.
وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ﴾ : إنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَ عَنْهُمْ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ هَمَّ بِالدَّفْعِ عَنْهُمْ مَيْلًا مِنْهُ إلَى الْمُسْلِمِينَ دُونَ الْيَهُودِيِّ ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُحِقِّينَ ؛ وَإِذَا كَانَ ظَاهِرُ الْحَالِ وُجُودُ الدِّرْعِ عِنْدَ الْيَهُودِيِّ فَكَانَ الْيَهُودِيُّ أَوْلَى بِالتُّهْمَةِ وَالْمُسْلِمُ أَوْلَى بِبَرَاءَةِ السَّاحَةِ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَرْكِ الْمَيْلِ إلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ وَالدَّفْعِ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا وَالْآخَرُ يَهُودِيًّا، فَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَكُونُ لَهُ مَيْلٌ إلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَا حُرْمَةٍ لَهُ وَالْآخَرُ عَلَى خِلَافِهِ.
وَهَذَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ وُجُودَ السَّرِقَةِ فِي يَدِ إنْسَانٍ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَاهُ عَنْ الْحُكْمِ عَلَى الْيَهُودِيِّ بِوُجُودِ السَّرِقَةِ عِنْدَهُ ؛ إذْ كَانَ جَاحِدًا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْآخِذُ.
وَلَيْسَ ذَلِكَ مِثْلُ مَا فَعَلَهُ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ جَعَلَ الصَّاعَ فِي رَحْلِ