التَّوَارُثِ بِالْحِلْفِ.
وَقَدْ كَانَ حِلْفُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى وُجُوهٍ : مِنْهَا الْحِلْفُ فِي التَّنَاصُرِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ إذَا حَالَفَهُ :" دَمِي دَمُك وَهَدْمِي هَدْمُك وَتَرِثُنِي وَأَرِثُك " فَيَتَعَاقَدَانِ الْحِلْفَ عَلَى أَنْ يَنْصُرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ فَيَدْفَعَ عَنْهُ وَيَحْمِيَهُ بِحَقٍّ كَانَ ذَلِكَ أَوْ بِبَاطِلٍ ؛ وَمِثْلُهُ لَا يَجُوزُ فِي الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَاقَدَا الْحِلْفَ عَلَى أَنْ يَنْصُرَهُ عَلَى الْبَاطِلِ وَلَا أَنْ يَزْوِيَ مِيرَاثَهُ عَنْ ذَوِي أَرْحَامِهِ وَيَجْعَلَهُ لِحَلِيفِهِ ؛ فَهَذَا أَحَدُ وُجُوهِ الْحِلْفِ الَّذِي لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الْإِسْلَامِ.
وَقَدْ كَانُوا يَتَعَاقَدُونَ الْحِلْفَ لِلْحِمَايَةِ وَالدَّفْعِ، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ إلَى ضَرُورَةٍ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا نَشَرًا لَا سُلْطَانَ عَلَيْهِمْ يُنْصِفُ الْمَظْلُومَ مِنْ الظَّالِمِ وَيَمْنَعُ الْقَوِيَّ عَنْ الضَّعِيفِ، فَكَانَتْ الضَّرُورَةُ تُؤَدِّيهِمْ إلَى التَّحَالُفِ فَيَمْتَنِعُ بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَكَانَ ذَلِكَ مُعْظَمُ مَا يُرَادُ الْحِلْفُ مِنْ أَجْلِهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانُوا يَحْتَاجُونَ إلَى الْجِوَارِ وَهُوَ أَنْ يُجِيرَ الرَّجُلُ أَوْ الْجَمَاعَةُ أَوْ الْعِيرُ عَلَى قَبِيلَةٍ وَيُؤَمِّنَهُمْ فَلَا يَنْدَاهُ مَكْرُوهٌ مِنْهُمْ ؛ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ :" لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ " هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْحِلْفِ.
وَقَدْ كَانُوا يَحْتَاجُونَ إلَى الْحِلْفِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لِكَثْرَةِ أَعْدَائِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ وَمِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ وَمِنْ الْمُنَافِقِينَ، فَلَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَكَثَّرَ أَهْلَهُ وَامْتَنَعُوا بِأَنْفُسِهِمْ وَظَهَرُوا عَلَى أَعْدَائِهِمْ، أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْتِغْنَائِهِمْ عَنْ التَّحَالُفِ ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا كُلُّهُمْ يَدًا وَاحِدَةً عَلَى أَعْدَائِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ التَّنَاصُرِ وَالْمُوَالَاةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :{ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ